أبحاث حول الموسيقى الشعبية الريفية
/ بول بولز Paul bowles*
بتكليف من مؤسسة روكفيل Rockfelerسيقوم بول بولز عام 1959 بجولة عبر قبائل الريف لتسجيل منتخبات من الموسيقى الشعبية الريفية لفائدة مكتبة الكونغرس الأمريكي.وقبل هذا التاريخ بثلاث سنوات، كان بول بولز قد قام بسلسلة من الزيارات لمناطق مختلفة من المغرب تمكن خلالها من تسجيل أكثر من مائتين وخمسة مقطوعة موسيقية تمثل ما يسميه بولز ب :
» موسيقات القبائل « )1(.
خصص بول بولز لهذه الرحلة الخاصة إلى الريف والظروف المحيطة بها، فصلا من كتابه » : زرقاء هي أيديهم) « 2 (. الذي يحكي فيها عن مجموعة من الرحلات قادته إلى مناطق مختلفة من العالم. وقد وضع كعنوان لهذا الفصل » الريف موسيقيا « Le Rif en Musique .
يحكي بولز عن رحلة بحثه عن ايقاعات موسيقية مختلفة بقبائل الريف.هذه الرحلة تمتد على رقعة جغرافية واسعة هي ما يشكل الريف حسب بولز : من كتامة إلى تاهلة عابرا أقاليم الحسيمة والناظور وبركان وتازة ، زائرا أهم القبائل الريفية كبني ورياغل وقلعية وكزناية وبني زناسن وبني واراين. وجل هذه القبائل كانت واقعة تحت الحماية الإسبانية.
وعلى غرار باقي القبائل لأمازيغية الأخرى بالمغرب، تتميز القببائل الريفية بغنى موسيقي كبير بالنظر إلى التنوع القبلي والاثني للمغرب.ويؤكد بولز في هذا الصدد بأن الموسيقى هي ما يشكل العنصر الأساسي للثقافة الشعبية المغربية ككل . بل أكثر من ذلك ، يمكن القول بأن الموسيقى والألحان هي التي تلخص تاريخ وميثولوجيا السكان الأصليين للمغرب منذ القديم. وهذا ما جعل المغاربة ـ يقول بولز ـ يمتلكون إحساسا راقيا وساحرا بالإيقاع والذي يتجلى أساسا في ما يسميه بولز ب « الفنون المتوءمة » Arts jumeaux كالموسيقى والرقص. وهم في ذلك أشبه بالسود في إفريقيا الغربية.
يتعلق الأمر بإرث موسيقي عريق،وبأشكال فنية متعددة. فمنذ العصر الحجري الأخير ,العصر النيوليتيكي, كانت للبربر موسيقاهم التي حافظوا عليها على امتداد العصور. إنها ما يمثل فن الإيقاع Art de percussion الذي تستعمل فيه بكثرة آلات النقر التي تحدث تنويعات إيقاعية معقدة .لكن على سلم محدود ) لا يتجاوز في بعض الأحيان ثلاثة أنغام متتالية( .
لكن العديد من هذه الأشكال الفنية ستختفي مع مجيء الإسلام الذي اتخذ منها موقفا سلبيا، خاصة الرقص الذي كان الموقف منه أكثر حدة ، بغض النظر عن شكله ونوعه.
وبالرغم من التحولات التي لحقت البنيات التقليدية للمجتمع المغربي، وبعض المواقف الإيديولوجية السلبية ، فان الموسيقى حافظت على حيويتها خاصة في بعض البوادي التي بقيت ، ولو نسبيا، عن تلك التحولات » الحداثية « كما في الريف ، سيما في الفترة التي يتحدث عنها بول بولز، أي أواخر الخمسينات.
تتعدد الآلات الموسيقية المستعملة بالريف، لكن بالنسبة لبولز فان ما يميز الموسيقى الريفية هما الآلتين الهوائيتين الغيطة والزمار اللتين لهما إيقاع خاص ومنفرد.
لموسيقى الغيطة بالريف هويتها وإيقاعها الخاصين، إذ تختلف ،مثلا، عن موسيقى الغيطة بجبالة ، خاصة عند بني عروص، عاصمة الموسيقيين جبالة كما يقول بولز. وهذا الاختلاف يتجلى في أن الغيطة الريفية تتميز بإيقاع أكثر رقة وحدة كما نجد في قبائل بني ورياغل بشكل خاص. ويتميز الريفيون بإتقانهم لهذه الآلة. وفي هذا الصدد يحكي بولز عن الفنان بوجمعة بن ميمون الذي يقول عنه بأنه أحد الموسيقيين القلائل في إفريقيا الشمالية ككل. وهي آلة تنتج إيقاعا حزينا ، خاصة عندما تلعب بشكل منفرد. أي دون أن تكون مصحوبة بالكلمات أو آلات أخرى.
لكن ما يضفي على موسيقى الريف طابعا أكثر خصوصية هو الزمار . ناي طويل بقرنين. وهي آلة يشهد بولز أنه لم يسبق أن رآها في أي مكان آخر. وعندما رآها لأول مرة أخذ لها صورا فوتوغرافية من زوايا مختلفة.
انها آلة كثيرة الاستعمال بالقبائل الشرقية للريف كبني بويفرور ، وبني توزين، وآيت أوليشك، وتمسمان. تستعمل من طرف ايمذيازن : أشخاص احترفوا الغناء ، جوالون مثل تربادور troubadour أي الشاعر الغنائي الجوال.وعموما فان امذيازن ، الذين يسمون أيضا ب : » رشيوخ « . ويوضح بولز بان الريفيين ينظرون إلى أمذياز نظرة احتقارية. لكنه يحظى بالاحترام في نفس الوقت كموسيقي. إذ يعيش وسط الجماعة وليس أبدا كالغجر أو مجرد شخص منبوذ Paria .
وامذيازن عموما يتقنون اللعب بآلة الزمار.
يحكي بولز عن ذلك الشيخ )أمذياز( الذي » يلعب بالزمار بشكل بارع وبأشكال مختلفة. واقفا أو جالسا أو راقصا ، مصحوبا بالبندير أو بشكل منفرد « .
إلى جانب الإيقاع الحزين ، تمتاز الموسيقى الريفية بالمشاركة الجماعية عكس الموسيقى العربية التي تتوجه إلى الفرد كما يلاحظ بولز دائما. وهذا ما يفسر كيف أن أحد امذيازن عندما طلب منه بولز أداء قطعة منفردة للقصبة أجابه حرفيا » : بماذا سنعرف إذن ماذا تقوله القصبة، إذا لم يكن هناك من يغني الكلمات ? « .
الحسن أسويق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب ومؤلف موسيقي أمريكي قدم إلى طنجة عام 1931.واستقر بها منذ ذلك التاريخ ,إلى أن توفي بها في 18 نوفمبر 1999.
)1 ( في إحدى حلقات الدراسة المتميزة التي أنجزها حسن نجمي حول تراث العيطة بالمغرب يشير إلى استضافته بالولايات المتحدة الأمريكية من طرف أحد الباحثين الأمريكان والذي أسمعه تسجيلا قديما من تسجيلات فن العيطة التي كان قد قام بها الكاتب الأمريكي بول بولز بالمغرب سنة 1957) أنظر جريدة الاتحاد الاشتراكي ـ 29 أكتوبر2003/العدد 7384 (.
) 2 ( 1989Leurs mais sont bleues – récits de voyage. Editions Quai Voltaire.
) النسخة الأصلية بالإنجليزية صدرت في سنة 1963( .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق