جامعة محمد الخامس وحدة البحث والتكوين
كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطور الأفكار العلمية حول البحر المتوسط الرباط قبل العصر الحديث
بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الفلسفة)
الكتابة والعلم
بحث في دور الكتابة في تشكل المعرفة العلمية بالشرق القديم ( بلاد الرافدين)
إعداد الطالب: الحسن أسويق إشراف: د.بناصر البعزاتي
السنة الجامعية
2007/2008
مقدمـــــــــة
قبل أن تصبح الكتابة شأنا عاما وملكية جماهيرية – في شكل ما يعرف الآن بالكتاب
[1]، ابتداء من تاريخ اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، وقبل أن تصبح مجالا للصراع بين القوى السياسية والإيديولوجيات؛ رسمية كانت أو معارضة، محافظة أو تقدمية، - كانت أثناء ميلادها، في الألفية الرابعة قبل الميلاد، امتيازا و «أداة محتكرة من قبل السلطة وبين أيدي فئات صغرى من الكهنة والمستكتبين (scribes) المكلفين بتحرير ونشر القرارات الملكية»
[2] و «أداة للهيمنة والدعاية لإيديولوجيا نخبة محدودة العدد»
[3].
ورغم عدم انفلاته التام من التملك السياسي والاقتصادي ، فان الكتاب – في شكل لفائف البردي – في العهد اليزناني لم يعد " حكرا على طبقة من الكتاب ، وانما عنصرا لثقافة عامة .....، كما ستصبح للكتابة الأبجدية وظيفة اعلانية تتمثل في نشر مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية ووضعها تحت أنظار الجميع "
[4]. وفي هذا الاطاريتحدث كارل بوبر، من جهته، عن سوق رائجة للكتاب منذ القرن الخامس للميلاد بأثينا[ الديموقراطية] التي ستصبح محجا للفلاسفة والعلماء لأسباب سياسية مثل أنكساغور وهيرودوت اللذين قدما اليها من آسيا الصغرى"
[5].
ومهما يكن من أمر، فان الكتابات الأولى التي توصل إليها البحث التاريخي والأركيولوجي، تشهدعلى أنه – إلى جانب الوظائف التجارية والمحاسباتية – للكتابة، فقد «كانت تحكي عن حياة ذوي السلطة والنفوذ، وعن الأنساب العائلية والحروب والتحالفات... والإصلاحات الكبرى، نظرا للارتباط الوثيق بين الكتابة والسلطة»
[6]. لكن، مع ذلك، لابد لنا في هذا الصدد أن ننبه على مسألة، يعتبرها "جاك غودي" أساسية، وهي أنه «سيصبح من قبيل الوهم البحث عن أصل كل تراتبية وكل هيمنة في الكتابة وحدها»
[7]لأنه توجد – كما سيتبين لنا لاحقا ـ «أشكال معقدة من الحكم بدون وجود الكتابة»
[8]، الشيء الذي يعني، على هذا المستوى، أن دور الكتابة هو تعزيز سلطة الدولة وخلق «أنماط جديدة من الهيمنة»
[9].
وهذا الارتباط بين الكتابة والسلطة، السلطة السياسية بالدرجة الأولى، ينطبق على مراحل مختلفة من تاريخ الإنسانية وينسحب على جميع الحضارات.
وتمثل مرحلة العصر الوسيط في الفضاء الإسلامي – العربي النموذج الأمثل على ذلك، مشخصة في ما يعرف ب «الديوان» أي «ديوان الرسائل والكتابة»
[10] بتعبير ابن خلدون. (كتاب الأمراء والسلاطين) ، أو بعبارة أخرى «كتاب الإدارة الإسلامية»
[11]. والجدير بالذكر أن ارتباط الكتابة بالسلطة لا يتجلى فقط في تبعية الكتابة للسلطة (كتابة السلطة)، بل يتجلى أيضا في سلطة الكتابة ذاتها (سلطة الكتابة) خاصة في علاقتها ب "الشفوي" (L'oral)، وذلك بحكم "المنطق الداخلي" للكتابة ذاتها، وما تتيحه من إمكانيات التجريد والاستدلال، وعمليات الصورنة والبنينة المنطقية.
إن الكتابة لم يكن لها أن تنشأ وتتطور إلا في كنف دولة مركزية قوية. وقد تأكد تاريخيا أنه لم توجد ثقافات مكتوبة بدون دولة. فمن العوامل الرئيسية المفسرة لظهور الكتابة «إستجابتها لانشغالات وهموم إدارية وسياسية»
[12]، لدولة شكلت الكتابة أحد مقومات تفوقها. وفي هذا السياق تندرج الأسطورة السومرية
[13] التي موضوعها أصل الكتابة (مع الإقرار بأن الكتابة اختراع سومري بامتياز. وهذا ما لم ينفيه أي مؤرخ مهتم بالبحث في أصول الكتابة).
وحسب العديد من القرائن المتوفرة، فإن الكتابة في بداياتها الأولى، كانت تؤدي وظيفة أساسية، هي وظيفة الدعاية والتمجيد للأشخاص الذين يصدرون أمر الكتابة»
[14]. وهذا أمر يصدق على حضارات أمريكا الماقبل كولومبية (l'Amérique précolombienne) [أي أمريكا وحضارتها قبل مجيء )كريستوف كولومبوس]، كما على حضارات الصين ومصر وبلاد الرافدين، إذ يتعلق الأمر بكتابات ذات وظيفة دعائية بعيدا عن سرد الوقائع والحقائق التاريخية»
[15].
ومهما يكن من أمر، فإن الكتابة قد شكلت عامل تطور حضاري كبير، ومساهمة حاسمة في تقدم الإنسانية. إن الأمر يتعلق «باختراع عظيم ثور العالم»
[16] و«غير شكل الوعي الإنساني أكثر من أي اختراع آخر»
[17]. لكن يجدر بنا الإشارة في هذا السياق، إلى أن الانتقال نحو حضارة الكتابة وتشكل ما يسميه جاك غودي ب "العقل الكتابي" (La raison graphique). لكن هدا لم يتم دون "خسائر" إذ كان على حساب أشكال غنية من «الذاكرة الشفوية»
[18] والإرث الشفوي، بما في ذلك «القانون العرفي» الذي سيحل محله «القانون المكتوب». ويعلق «هنري جون مارتان» على هذا الأمر بشكل ساخر قائلا: «إن هذا ]صناعة الكتاب [ يشكل مظهرا آخر من مظاهر طوفان الورق»
[19].
[20]وفي هذا السياق أيضا يمكن أن نأتي على ذكر موقف «كلود ليفي ستراوس» وهو يربط بين الكتابة واللاأصالة (inauthenticité). يقول: «إن العلاقة التي تربطنا بماضينا ليست علاقة مباشرة بحيث نكون في علاقة معيشة مع الأشخاص... بل إنها علاقة تتم عبر الكتب المتراكمة في المكتبات... وفيما يخص الحاضر، فإننا في علاقة تواصل واسعة مع معاصرينا عبر مختلف الوسائط، كالوثائق المكتوبة أو الميكانيزمات الإدارية، والتي لاشك توسع من دائرة علاقاتنا إلى حد بعيد، لكنها وسائط تضفي على الإنسانية طابع اللاأصالة»
[21]. صحيح – يقول ليفي ستراوس، أن الكتابة أحدثت ثورة كبرى وقدمت للإنسانية خدمات كثيرة، لكنها «سلبت منها شيئا أساسيا هو الأصالة»
[22].
وبالجملة، فإن الكلام في موضوع الكتابة يجري على نواحي ومناطق مختلفة، بما ينطوي عليه من أبعاد وإشكاليات، بحيث تجدنا أمام مقاربات ونظريات متعددة تاريخية وأنتروبولوجية ولسانية.وتقاطعات لجوانب تقنية تهم تاريخ المكتبات والكتاب وفنون الخط ومهن النسخ والنقل ...الخ. ولسنا ههنا نهتم بكل ذلك، حسبنا أن نركز الاهتمام على بيان خصائص الفكر المكتوب انطلاقا من تشكل النواة الأولى للفكر العلمي ببلاد الرافدين.
لقد ظهرت الكتابة ببلاد الرافدين في الألفية الرابعة قبل الميلاد ،ومعها ظهر "العلم الرافدي".
وإذا كان الربط السببي بين العلم والكتابة متواترا عند جل ،ان لم نقل كل الباحثين ، فان ما يميز موقف الأنتروبولوجي الإنجليزي المعاصر (جاك غودي 1919،....) هو انه يجعل من الكتابة "مبدءا تفسيريا " . لذلك سنفرد حيزا خاصا لتصوره بغاية ابرازالعناصر التي ساهمت في التشكل العقلي في بلاد الرافدين .
مقصدنا الغايتي، فيما سيأتي من قول، هو بيان النتائج المعرفية ،بشكل خاص، المترتبة عن اختراع الكتابة في بلاد الرافدين ، على أن نؤجل القول عن مساهمة الكتابة الآبجدية عند اليونان في اشعاع الفلسفة والعلم الى وقت لاحق خاصة مع هافلوك الدي يدافع عن الآطروحة التي مؤداها ان الكتابة كانت شرطا ضروريا لانبثاق الفلسفة والعلم عند اليونان.
وغني عن البيان أن الآمرلا يتعلق الأمر بعرض المنجزات الحضارية ببلاد الرافدين للسومريين او الأكاديين أو الآشوريين أو البابليين،بل ببحث العلاقة بين ميلاد الكتابة ونشأة العلم.
واذا كانت كل محاولة تعريف تصطدم بصعوبة الجزم بمعنى دقيق وجامع مانع لما نطلب تعريفه نظرا ، بالدرجة الأولى، لاختلاف التصورات والمذاهب التي يتأطر ضمنها هذا التعريف أو ذاك،فان تعريف العلم لا يشذ عن هذه القاعدة،وهكذا تزداد الصعوبة حين يتعلق الأمر بتحديد بداياته ونشأته، ورصد مراحل تطوره.
ثمة كما يقول أندري بيشو " لبس سيمونطيقي يكتنف مفهوم" العلم" . وهذا اللبس يجعل كل واحد يتصور تطور العلم على طريقته الخاصة"
[23].
بيد أن ثمة "حقيقة" يكاد ينعقد عليها الإجماع بين الباحثين في تاريخ العلم ويعضون فيها بضرس قاطع ، هي ان العلم - قبل كل شيء – فكر عقلاني منظم أو" معرفة نسقية"
[24] تقوم على مجموعة من العمليات الذهنية ،التي بفعلها وفضلها، تتطور المعارف كالتبويب والتصنيف والتحليل والصورنة ،لكن أيضا على التقييد والتسجيل.وهذه" العمليات ذات طبيعة كتابية"
[25] .
معنى هذا أن ما يضفي على العلم طابعه النسقي المنظم هو الكتابة.فتاريخ العلم لا يبدأ إلا مع ظهور الكتابة.وفي هذا السياق يقول ادموند هوسرل " ليس للعلم وجود موضوعي إلا بوجود بيبليوغرافيا ، ولا يكتسب وجوده الخاص إلا في شكل أعمال مكتوبة"
[26]. وهذا ما سبق أن سجله هيغل بقوله " إن التاريخ الحقيقي والموضوعي لشعب من الشعوب يبدأ عندما يصبح تاريخا مكتوبا، والحضارة التي لم تفلح في كتابة تاريخها الخاص هي أيضا عاجزة عن التطور الثقافي"
[27].معنى هذا أن "ظهور ما نسميه ب"التاريخ" كان وثيق الصلة بظهور الكتابة"
[28].
لا مجال إذن للحديث عن تاريخ للعلم قبل ميلاد الكتابة بما هي صناعة منظمة وكلغة عالمة ومقدسة
[29]، بل وكعلم في حد ذاتها.
[30]وبعبارة أخرى، يمكن القول ان لا مجال لفهم قوة الاشعاع المعرفي للقدماء دون الآخذ بعين الاعتبار الحظوة الكبرى للغة والكتابة عندهم.
1 / الكتابة والعلم : بداية متزامنة
أ- العلم كمعرفة نسقية منظمة:
منذ ظهور الكتابة كتقنية جديدة ظهر ما سماه بوطيرو ب"الأشياء الجدية" وذلك حوالي بداية الألف الرابعة.يقول " بدات الأشياء الجدية ،اذا امكننا القول، حوالي بداية الألف الرابعة، حين تواجدت وجها لوجه في القسم الجنوبى (لبلاد الرافدين) مجموعتان من السكان احداهما غريبة تماما من الأخرى السومريون من جهة ومن جهة اخرى اولئك الذين اصطلح على تسميتهم بالأكاديين"
[31].ان هذا اللقاء ـ يضيف بوطيرو قائلا " هو الذي يشكل نقطة انطلاق حضارة رفيعة ومبتكرة لن تكف عن التطور والاكتمال، وستعيش بلادها خلال ثلاثة آلاف عام،وهي تشع على من حولها مثل المنارة مانحة الكثير لنفسها"
[32].
وان دل هذا على شيء فانما يدل على اهمية التلاقح والتفاعل في اثمار حضارة ما. ف"قبيل القرن السابع قبل الميلاد حصل تحول في كل سبل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والعقيدية لدى المصريين والبابليين والاغريق والمجموعات الثقافية التي تتعامل معها عن قرب ، خصوصا ثقافات البحر الأبيض المتوسط،نظرا للتفاعل بينها مند القديم"
[33] لقد مكنت الكتابة من تخزين المعارف واعداد اللوائح بشكل مصنف ومنظم وهذا متعذر التحقق شفويا.وهذه الجداول المحاسباتية والتعاقدان والتصنيفات الجدولية ...الخ. مجموعة من الممارسات التي كانت وراء انبثاق ما سماه ج.غودي ب"العقل الكتابي".
وبصفة عامة، لقد كانت للكتابة فضائل عدة كان من نتائجها احداث "ثورة ذهنية" حقيقية.
ومن النتائج الجذرية المترتبة عن بروز الكتابة اللغوية " تهميش الخطاب الشفوي في نطاق توزيع السلط السياسية والفكرية والاقتصادية لآن النص المكتوب يفرض حسابا وتوقيعا وتوثيقا وتقنينا وتخزينا.فأصبح الشفوي ،بحكم دوام المكتوب زمنا أطول من دوام الشفوي.كما كتب رفائيل بيفيدال " يصاحب ميلاد الكتابة تحول للكلام .... لم يعد كلام شعب ذي لغة مكتوبة نفس الكلام ، بل أصبح لغة ملحقة ،تابعة للمكتوب،لغة بدون أهمية،وبدون سلطة.... فذلك الذي يعتبر مهما لا يمر من خلال الكلام،اد ليس الكلام الا مجرد مداكرة،وتبادلا بدون قيمة.وليس للكلام ،في مجتمعنا ،ارتباطا بالصدق والبرهان أبدا حيث ان العلم لا يستعمل الا الكتابة"
[34].
وبفضل الكتابة دائما تم اكتساب القدرة على " التمارين الذهنية" les jeux de l’esprit -"
وفي هذا السياق تقول مارغريت أوطن " ان الكتابة المتميزة التي ابتكرها السومريون والتي طورها البابليون ، قد مكنت من اكتساب قوة خارقة على ممارسة " التمارين الذهنية" التي تعد احدى أسرار الميكانيزم الغريب ل"الفكر القديم"
[35] .كما نمت القدرة على التحليل ، بل " تبنين الادراك والوعي وفقا لنمط تحليلي"
[36].
من جهة أخرى ،"ان الانتقال الى الكتابي يتطلب فضاء خاصا للتعليم، اي مؤسسة ، واعترافا من لدن المجتمع بان بعض الناس مؤهلون للتعليم دون البعض، والمؤسسة تتطلب حضورا منظما لطاقم مشرف، لا يكون الا في علاقات تقارب جغرافي ، اي يتطلب مدينة.وهكذا فالانتقال من الشفوي الى الكتابي يرتبط بسيرورة ثقافية و"تقنية" واديولوجية على مدى بعيد"
[37].
ان تجدد الأبحاث والدراسات حول الحضارات القديمة وما يترتب عنها من اكتشافات جديدة خاصة في ميادين البحث التاريخي والأثري والأنتروبولوجي ، فضلا عن اختلاف " الدارسين لجوانب الحضارات القديمة حول السمات المميزة للمعرفة وعلاقتها بالأبنية الأسطورية والعقيدية"
[38] عاملان اساسيان ،الى جانب عوامل اخرى كثيرة طبعا من بينها عدم الاتفاق حول تعريف موحد للعلم كما اسلفنا القول، يجعلان من الصعب الجزم ب" تحديد نهائي في مسألة التأسيس التاريخي للعلم"
[39].
وعليه،تغدو "مسألة تحديد بداية تاريخية لتكون المعرفة العلمية بتدقيق من الصعوبة بمكان"
[40].
يقول والتر ف.رينكي " ان تطور الكتابة ، التي تمكن من التقييد ونقل معطيات التجربة في صيغة مستمرة ودقيقة، كانت الشرط القبلي لميلاد علم حقيقي"
[41] .
كما ان " التقاليد الشفوية الخالصة لا تعطي امكانية لوجود "علم " أو تحليل أو مقارنة أو تعميق للمعرفة"
[42].
وبفضل ما تتيحه الكتابة من امكانيات خاصة " نما الوعي بأسباب المعرفة وبدور الملاحظة المنتظمة وتسجيل المعلومات ، وتطور التعبير بواسطة الحساب والجداول من اجل بناء هده المعلومات بناء استدلاليا يتوخى المعرفة المنظمة"
[43].
تقول مونيكا ركتور ، في نفس السياق، " لقد منحت الكتابة للبشر امكانية جني معارف منظمة"
[44].
ان هذه "البداية العلمية" ان جاز القول،واذا ما غضضنا الطرف عن المذهب الوضعاني، تجعلنا نعتبر العلم شكلا ثقافيا لا يمكن عزله عن المقامات الثقافية والعقدية،اي عن المسار التاريخي الفعلي حيث يتاكد الطابع الدينامي والتفاعلي للمعرفة العلمية مع جميع الأنشطة الثقافية والاجتماعية للانسان"
[45] في تحولاتها وتفاعلاتها.وبهذا المعنى يمكن الحديث عن نوع من "الثقافة العلمية"
[46] بعبارة روني تاتو.
وكما يؤكد ذلك ادموند هوسرل فان الهندسة والعلم بصفة عامة شكلان من أشكال متعددة ل"عالم الثقافة .... كاستمرار للتقليد"
[47].
بيد ان ثمة فرقا اساسيا بين الثقافة والعلم يتجلى في كون ان العلم يتميز بكونه " لا يمكن اختزاله في اطار ثقافة تاريخية محددة بما هي كذلك، لآن العلم يمثل قيمة كلية للحقيقة. ... ان فكرة العلم مؤشر على ثقافة خالصة. بل انه جوهر )ايدوس eidos ( الثقافة بامتياز"
[48].
ب- الكتابة كشرط للمعرفة العلمية الموضوعية:
لقد خصص جاك دريدا مقدمة مطولة لمقال ادموند هوسرل "أصل الهندسة" الدي قام أيضا بترجمته، لتوضيح العلاقة بين العلم والموضوعية.
يرى دريدا شارحا هوسرل ان "الكتابة شرط امكان وشرط جواني لأفعال المعرفة الموضوعية"
[49].
تنبني المعرفة الموضوعية عموما على العلاقة الابستيملوجية بالعالم الخارجي، وبمقتضى ذلك تعطى لنا الموضوعات الخارجية قصد نمثلها وانشاء أفكار ونصورات حولها. وهذا ما يسمح به الكتابي الذي يثبت الكلام مرئيا " ويمكن من تقديمه كموضوع للتفكير . كما ان عرض الخطاب بصريا أمر يستدعي عمليات تمفصلية ذهنية جديدة اثناء الاستدلال"
[50] .
ان الكنابة ، يهذا المعنى ، تخلق ما يسميه دريدا ب" حقل ترنسندنتالي مستقل"
[51].
2 /ميلاد الكتابة ومراحل تطورها:
أ- ميلاد الكتابة: الإقتصاد والدولة:
تطرح مسألة الأصل (البداية) عدة صعوبات وتعقيدات من حيث أنها تفتح المجال أمام فرضيات بل تخمينات مختلفة ومتناقضة أحيانا. لكن يبدو أن ثمة إجماعا بخصوص مسألة ميلاد الكتابة سواء من حيث المكان (أين ؟) أو الزمان (متى ؟).
إن الألواح الفخارية الأولى التي اهتدى إليها علماء التاريخ والأركيولوجيا تشهد على أن الرسومات التصويرية Pictogrammes التي تحملها تلك الألواح كانت ببلاد الرافدين، وبالضبط بالمدينة – الدولة (cité - Etat) أوروك URUK (حاليا: وركة warka جنوب العراق)
[52].
الكتابة إذن اختراع سومري ببلاد الرافدين، ويعود إلى 3400 سنة قبل الميلاد.
لكن ما هي الشروط العامة التي حكمت وصاحبت ظهور الكتابة ؟
يجمع أغلب الباحثين على أن اختراع الكتابة كان معاصرا لظهور البوادر الأولى لنشأة الدولة في الحضارات القديمة. إنها بهذا المعنى نتاج حضاري
[53]. وحاجة أساسية للدولة
[54]. وبعبارة أخرى، فإن انبثاق الكتابة جاء كاستجابة لحاجيات فرضتها درجة النمو الإقتصادي. أي أنها لم يكن لتظهر إلا في سياق حضاري يتجسد في عدة مظاهر من التطور العام، و«لم يكن لها أن تتماسك وتستمر في بداياتها الهشة سوى بشرط وجود بنية سياسية معينة، قداسية واقتصادية ألا وهي المدينة – الدولة وما يرتبط بها»
[55].
ولعله من قبيل اللاجدوى أن نتساءل عما اذا كانت الكتابة نتاجا لتطور اجتماعي ، أم انها ،خلاف ذلك، هي التي كانت السبب في ذلك التطور. "فالآمران صحيحان" يجيب روبير اسكاربي
[56] . " ثمة مجتمعات ظهرت فيها الكتابة تحت ضغط اكراهات مؤسسية،لكنها أثرت بشكل عميق على سير تلك المؤسسات"
[57] تتجسد مظاهر هذا التطور الحضاري العام، التي انبثقت الكتابة في سياقه، في مجالات الفلاحة وفن صناعة الخزف، والهندسة (بناء المنازل ذات الأعمدة الأربعة لأول مرة)، وانتعاش أنشطة الري وتربية الماشية في ظل ظروف مناخية مساعدة على الاستقرار
[58].
إن ميلاد الكتابة إذن كان يتطلب درجة من النمو و الازدهار والغنى. ففي «حوالي نهاية الأْلفية الرابعة قبل الميلاد كان على بلاد الرافدين، بلاد الطمي والتربة الدسمة والخصيبة الغنية بموقعها ومواردها وساكنتها العاملة والمتطورة ثقافيا، ووفرة فائض إنتاجها بكل زراعتها الضخمة للحبوب والقطاني وتربيتها الكثيفة للماشية، كان عليها أن تتعامل مع جيرانها لتجلب منهم ما لا تتوفر عليه مثل خشب البناء والأثاث والحجر والمعادن، فقد كانت هذه الحضارة غنية وقوية ومنظمة داخليا وذات مستوى معاشي رفيع، مزدهرة يحترمها ويخشاها الكل، ولكنها كانت كذلك منفتحة تجارتها الحرة على جيرانها القريبين والبعيدين»
[59].
لقد نشأت، بالموازاة لهذه النهضة الاقتصادية ببلاد الرافدين إذن، الحاجة لضبط المبادلات التجارية وتدبير تراكم الثروات بواسطة نظام محاسباتي غدا ضروريا للتحكم في ثروة تفيض عن اللازم.
معنى هذا إذن، إن ابتكار الكتابة كان استجابة لضرورات اقتصادية – محاسباتية بالدرجة الأولى. وقد تحقق ذلك بالمدينة – الدولة "أوروك" "URUK" التي نشأت بها حركة واسعة للتمدن (urbanisation) نتيجة لالتقاء الشعبين السومري والأكادي.
وفي هدا الصدد يقول هنري جون مارتان " لا مجال لنفي كون ان الكتابة قد تطورت ببلاد سومر من أجل ، قبل كل شيء، أن تستجيب لضرورات جديدة دات طابع اقتصادي بشكل خاص، في مرحلة عرفت نمو الثروات التي .... فرضت التوفر على نظام للمحاسبة"
[60].
من جهته يقول "ج. بوطيرو" : «فتاريخ حضارة بلاد الرافدين قد بدأ فعلا مع التقاء الشعبين: السومريين والأكاديين في القسم الجنوبي من المنطقة حوالي الألفية الرابعة قبل الميلاد على أكثر تقدير»
[61].
إن الكتابة لم يكن لتظهر إذن إلا في مجتمع تراتبي وفي ظل دولة مركزية، تعتبر الكتابة إحدى أدوات نفوذها، تفوقها وسلطتها. هكذا «إستطاعت الدولة السومرية تطوير تجارة دولية، وخلق شبكة من العلاقات الدولية عمادها التواصل المكتوب. ومن ثمة أصبحت اللغة الأكادية لغة الديبلوماسية»
[62].
وقد كانت الحاجة إلى الكتابة ضرورية للقيام بوظائف الإدارة السياسية والاقتصادية وتسيير شؤون الدولة عامة.
ثمة ادن علاقة ارتباط وثيق بين الكتابة والحضارة والمعرفة العلمية. "فبدون معارف رياضية ، كيف يمكن تصور تشييد وادارة المدن الكبيرة ?"
[63]. ويضيف والتر ف.راينكي متسائلا " وبدون حد أدنى من المعارف الفلكية ، كيف كان يمكن ممارسة الملاحة ?".
[64]يتضح من هذا ان الكتابة والمعرفة العلمية الى جانب كونهما عاملين للتطور الحضاري ، فهما مطلبين من افراز الحضارة التي من ابرز مقوماتها الدولة القوية. وفي هدا الصدد يقول والتر ف.لااينكي " سواء في آسيا الغربية أو أفريقيا الشمالية،وبشكل خاص في بلاد سومر ومصر، في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد، أي في مرحلة تشكل الدولة، كانت أيضا المرحلة الحاسمة للتقدم العلمي"
[65] .
وفي هذا اتلسياق يتحدث اندري غريبينسكي عما يسميه ب"الاختراع المستمر والمتعدد للكتابة" "
[66]يتبين مما تقدم أن الاستعمال الأول للكتابة كان لأغراض إقتصادية – محاسباتية لا ثقافية – أدبية . أي أن الوظيفة الأددبية للكتابة مرحلة لاحقة على الأولى.
وهدت ما يؤكده جاك غودي حين يقر بأنه يتعذر الحديث عن إنتاجات أدبية مكتوبة إلا بعد الألفية الثالثة، أي بعد ألف سنة من ظهور الكتابة في شكلها التصويري (البيكتوغرافي) الأول. يقول: «من المؤكد عندنا أن الإمكانات المهمة التي سمحت بها الكتابة في الميادين الأدبية والفلسفية، كما في ميادين أخرى، لم تتبلور إلا مع ظهور الكتابات المقطعية syllabiques والأبجدية Alphabétiques لسهولتها ومرونتها»
[67]. وفي هذا يقول "والتر أونج": «إن الخط المسماري الأول ... كان يستخدم في معظم الأحيان مهما تكن سوابقه الدقيقة، ليؤدي أغراضا اقتصادية وإدارية يومية في المجتمعات الحضرية. فقد كان التحضر باعثا على تطوير حفظ السجلات. أما استخدام الكتابة في الإبداعات الخيالية، على نحو ما استخدمت الكلمات المنطوقة في القصص أو القصائد الغنائية، أي استخدام الكتابة لإنتاج الأدب بالمعنى الأخص لهذا المصطلح، فيأتي متأخرا للغاية في تاريخ الخط»
[68]. يستفاد من هذا أن الكتابة لم تكون كأداة للإنتاج الأدبي إلا في وقت متأخر بالقياس إلى تاريخ ميلادها، إذ «خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، سيجاوز استعمال الكتابة بكثير مجرد المحاسبة و«ومسك الحسابات»، ليتعداه إلى عدد متزايد من الأجناس الأدبية من نثر وشعر»
[69].
السؤال الذي يمكن أن يطرح في هذا الصدد هو: لو كانت العلاقة بين الدولة، بدعامتها الاقتصادية، والكتابة علاقة إنشراطية، فلماذا لم تظهر الكتابة في كل الأماكن التي تطورت فيها مجتمعات الدولة – (sociétés à Etat)؟
على هذا السؤال تجيب "ك. هيرونشميث" قائلة: «وإن كان صحيحا أن فن الكتابة لم يتم اختراعه في كل الأماكن التي تطورت فيها مجتمعات الدولة بملوكها ورهبانها وجزياتها، فإنه لم يكن مع ذلك أن يظهر إلا في وسط كهذا»
[70].
وبالنظر إلى هذه العلاقة المعقدة بين الكتابة والدولة، فإن جاك غودي قد حرص على أن يوضح – كما مر معنا – بأنه قد وجدت أشكال متطورة للحكم دون وجود الكتابة. ومع ذلك، فقد وجد من يرفض هذه العلاقة في أصلها
[71].
ومهما يكن من أمر، فإن ميلاد الكتابة كان يتطلب درجة من النمو والرغد والرفاه «فإذا أمعنا النظر، سنلاحظ أن فعل الكتابة، مهما يكن، ليس ظاهرة جوهرية تخص طبيعتنا كبشر مثل البصر أو الأكل، بل هي مثلها مثل الفن أو الطبخ، فعل ثقافي مثل كل ما أضافه البشر شيئا فشيئا إلى طبيعتهم كي يعيشوا بشكل أفضل»
[72]. وهذا لم يكن ممكنا إلا لأن الكتابة قد ساهمت إلى حد بعيد في تطوير وإنعاش "الاقتصاد القديم". (L'économie antique) وذلك من خلال عقلنته. لأن ثمة تلازما بين «"العقلانية الكتابية" و"العقلانية الاقتصادية"»
[73]، أي بعبارة أخرى، تجاوز «"الاقتصاد الشفوي" نظرا لمحدوديته، وذلك من خلال ضبط العمليات التجارية وتجميع الثروات وتنظيم الإنتاج، وضبط عمليات تحويل الأراضي وإثبات الملكية»
[74]. هكذا إذن تتعزز سلطة الدولة إقتصاديا، كما تتعزز سياسيا أيضا من خلال «التسجيل والتصنيف للمواليد، والأموات، وأسماء الأشخاص، وإحصاء القبائل والأراضي والمبادلات والأثمنة والجرائم... الخ»
[75].
بيد أن الربط بين السلطة والكتابة لا يعني «أن الكتابة، بما هي كذلك، هي أصل كل تراتبية وكل هيمنة. إن ذلك مجرد وهم»
[76] ـ كما مر معناـ بل يعني – في نظر غودي، أن للكتابة الدور الأساس في تحول المعرفة السياسية (أو علم السياسة)، كما في خلق أنماط جديدة من الفكر تتناسب وأنماط جديدة من الهيمنة»
[77]، كما «انه من الواضح أن تبني أشكال تواصلية مكتوبة كان شرطا ضمنيا لتطور الدول ذات الامتدادات الواسعة، ولتطور أنظمة الحكم الأكثر تجريدا»
[78]. لأنه «في مجال العلاقات الشخصية والمباشرة، لسنا في حاجة البتة إلى الكتابة»
[79].
ب- مراحل تطور الكتابة: من الكتابة التصويرية إلى الكتابة الأبجدية:
يميز الباحثون عموما بين مرحلتين كبيرتين في تطور الكتابة : مرحلة كانت فيها عبارة عن علامات signes لتسجيل الأشياء أو الأفكار (pictogramme idéographique) ومرحلة أصبحت فيها كتابة صوتية Phonétique .
معنى هذا أن الكتابة لم تظهر دفعة واحدة. وفي هذا يقول "ج. بوطيرو": «إنه سيكون من السذاجة الإعتقاد أن الكتابة صُنعت مرة واحدة. في لحظة واحدة كما نعثر فجأة على جوهرة»
[80].
لقد كانت عبارة عن رسم للصور والأشياء، أي عبارة عن الكتابة بالصور من أجل تسجيل وحفظ الأشياء أو الأفكار. ينطبق هذا على «الخط المسماري في بلاد ما بين النهرين (حوالي 3500 ف.م)، والهيروغليفي المصري (حوالي 2000 ق.م)، والمينوي أو المسيني المسمى "Linear B" (حوالي 1200 ق.م)، وخط وادي الإندس Indus Vally (حوالي 3000 ، 2400 ق.م)، والخط الصيني (حوالي 1500 ق.م)، والخط الماياني Mayan حوالي سنة 50 ميلادية، والخط الأزتيكي حوالي 1400 ميلادية»
[81].
ويذهب أغلب الباحثين إلى «أن الخط المسماري في بلاد ما بين النهرين، هو أقدم كل الخطوط المعروفة (حوالي 3500 ق.م)، وقد نما جزئيا من نظام لتسجيل التعاملات الاقتصادية باستخدام أمارات مميزة من الطين موضوعة في أوعية صغيرة»
[82].
إنها الآثار الكتابية الأولى التي تم التعرف عليها، وقد كانت «عبارة عن اتفاقيات تجارية مسجلة من طرف السومريين على ما يسمى ب "bulles enveloppes" وألواح الخزف. «لقد كان كل رسم، وبلغتنا، كل علامة وكل حرف، في وضعه الأصلي والأولي يمثل الواقع الذي كان يعيد إنتاج شكله الخارجي: مثلما هو الشأن بالنسبة للمزهرية والسنبلة»
[83] لقد كانت الكتابة، في هذه المرحلة التاريخية إذن، «كتابة أشياء»
[84].
بعد قرن أو قرنين تقريبا سيحقق النظام الخطي الرافدي، يقول بوطيرو دانما «تطوره الحاسم باتجاه المعقولية (L'intelligibilité) ... حين تحول من كتابة أشياء écriture de choses إلى كتابة كلمات écriture de mots»
[85].
وهذا يعد «تحولا كبيرا في الكتابة الرافدية التي انتقلت من وضعها المتواضع ككتابة أشياء، إلى كتابة كلمات وأصوات مرتبطة مباشرة بالكلمات وباللغة لا بالوقائع أو الأشياء فقط»
[86].
السيناريو العام الذي يكاد يجمع عليه الباحثون المختصون لتطور الكتابة هو الانتقال من: البيكتوغرام (رسم يمثل شيئا) إلى اللوغوغرام (علامة تمثل كلمة) نحو الأشكال المقطعية ثم الأبجدية
[87]. أي أن تاريخ الكتابة يتلخص في سلسلة من المحاولات المتنامية شيئا فشيئا إلى أن وصلت إلى الشكل الأبجدي. و«ظهور الأبجدية كان بعد ألفي عام من ظهور الخط المسماري»
[88]. يتعلق الأمر بالأبجدية السامية. لكن «اليونانيين قد فعلوا بالتأكيد شيئا ذا أهمية سيكولوجية كبرى عندما طوروا أول أبجدية كاملة فيها حروف علة ... هذا التحول الجوهري الكامل تقريبا للكلمة من الصوت إلى الصورة منح للثقافة اليونانية القديمة تفوقها الفكري على الثقافات القديمة الأخرى»
[89].
مع الأبجدية إذن ستصبح الكتابة ترجمة للكلام. وستصبح أسهل تعلما لأن عدد العلامات فيها محدود جدا.
لقد حققت الأبجدية ثورة هامة بفعل ظهور النظام الصواتي "système consonantique" بحيث «تم إخراج فن الكتابة من دائرة النساخ) المستكتبين ( scribe»
[90] وجعلها تنتشر على نطاق واسع. ومن هنا نجد الكثير من الباحثين يربطون بين الأبجدية والديموقراطية اليونانية، بل إن «الأبجدية اليونانية كانت سبيلا إلى الديمقراطية»
[91].
يمكن أن نستنتج من مراحل تطور الكتابة انها كانت في المرحلة الأولى سندا للنهضة الاقتصادية وتنمية أشكال الحكم والهيمنة ، كما كانت في المرحلة الثانية سندا للتطور الفكري.
والحاصل ان الأمر يتلخص في الانتقال من الشيء الى الكلمة والى المقطع ثم الى الصوت. بعبارة أخرى كانت الكتابة في بدايتها ضربا من الرسم اي رموزا تنصويرية ثم تطورت تلك الرموز التصويرية تدريجيا الى رموز فكرية. والجدير بالاشارة الى ان المرحلة الأولى تعتبر " جنينية "
[92] ، انها لا تمثل كتابة حقيقية " لأنها لا تعيد انتاج اللغة المنطوقة"
[93]لقد واجهت الكتابة التصويرية عقبات ومشاكل تتمثل أساسا في ظهور الحاجة الى مزيد من الرموز التي تدل على الأفكار والأشياء المجردة وهذا ما عجزت عن مسايرته الكتابة التصويرية.
ولحل هده المعضلة ، ظهرت محاولات في الحضارات القديمة بابتكار الكتابة الصوتية التي تمثل فيها الرموز الآصوات ، وهذا ما قام به السومريون والبابليون . لقد تمكنوا من ايجاد وتطوير نظام للرموز الصوتية ، لكن هذه الرموز اتجهت لأن تكون مقطعية. وبهذا تقلص عدد الرموز. وبفضل اقتصاد الرموز هذا بدات الكتابة تخرج من التعقيد الى السهولة. ويكاد ينعقد الاجماع بين الباحثين على ان النظام الأبجدي اليوناني ، المطور للأبجدية الفينيقية ، كان له الدور الحاسم في تسهيل عملية الكتابة . ومن مظاهر هذا التبسيط تقلص عدد الحروف من الآلاف الى حوالي عشرين.
غير ان هذا السبناربو العام حول تاريخ تطور الكتابة ، سبرى فيه البعص مجرد " وهم تطوري " بتعبير روي هاريس. واختزال للكتابة الى مجرد " صدى خطي للكلام" أو " تمركز حول الصوت " بتعبير جاك دريدا.
3/ الكتابة والعلم في بلاد الرافدين
بداية العلم وتشكل" العقل الكتابي" حسب جاك غودي:
يرجع اهتمام "جاك غودي" بموضوع الكتابة – على ما يذكر أشيل فينبورج ـ إلى تجربة شخصية. وتتلخص هذه التجربة في أنه خلال الحرب العالمية الثانية تم إلقاء القبض على "جاك غودي" بإيطاليا، وبقي رهن الاعتقال لعدة أشهر دون أن يكون في حوزته إلا كتاب واحد. أمام وضعية كهذه، وضعية حرمانه من القراءة والكتابة سيشعر بأنه قد تعرض لبتر عقلي، إذ لا يمكنه أن يفكر وسيتجمع أفكاره ومرجعياته الثقافية بدون دعامة المكتوب (L'écrit). بعد اجتيازه لهذه التجربة، بعيد انتهاء الحرب، سيلتقي ب "إيان وات" "Ian watt" الذي كان قد مر هو بدوره من نفس التجربة في المعسكرات اليابانية. في سنة 1959 سينشران معا مقالا حول موضوع الكتابة بعنوان: «نتائج الكتابة» (The consequences of literacy)، والذي يدافعان فيه عن دعوى أساسية مفادها أن الكتابة قد لعبت دورا كبيرا في تحقيق قفزة ثقافية بالنسبة لتاريخ الإنسانية»
[94].
فيما بعد سيعمق جاك غودي أبحاثه حول «ظاهرة الكتابة» والتي ستثمر مؤلفين هامين هما: «العقل الكتابي» و«ومنطق الكتابة» كنتيجة، من جهة لقراءاته النظرية، حول الشرق الأوسط القديم وأوروبا العصر الوسيط، ولأبحاثه الميدانية في أفريقيا الغربية، وتحديدا بشمال غانا، من جهة أخرى.،وذلك بهدف «رصد التأثيرات الأولى للمكتوب (L'écrit) على تنظيم المجتمعات الإنسانية»
[95].
وتتميز نظرية جاك غودي الانتروبولوجية بكونها تلتمس لنفسها مسلكا خاصا يجعلها بمنأى عن النزعة الاثنية الغربية التي حكمت أغلب النظريات السوسيولوجية والأنتروبولوجية الغربية، والتي، في نظر غودي، سجينة تلك «المفاهيم التبسيطية للمركزية الأوروبية». «notions européocentristes simplistes»
[96]. وهي مفاهيم تتأطر ضمن منطق الثنائية (dichotomie)، وتنهض على «فرضيات متسرعة»
[97] أدت بأصحابها والمستعملين لها، إلى طروحات «مغرقة في الاحتفاء والانتشاء بالنصر (triomphalistes)»
[98].
ومما يعيبه "جاك غودي" على هذه النظريات، فضلا عما سبق، هو «تعقيداتها المقولاتية» أو ما يسميه بعبارة أخرى، «تعقيدات الإطار النظري»
[99].
وإذا كانت الانتروبولوجيا تسعى إلى تفسير «تغير أنماط التفكير في المكان والزمان»
[100]. أي «دراسة وتفسير مظاهر الاختلاف بين الأنظمة السوسيو-ثقافية»
[101] ، فإن "جاك غودي"، وبعيدا عن التعقيدات المقولاتية وتعقيدات الإطار النظري، يقترح التركيز على «عامل تقني» أساسي وحاسم لفهم واستيعاب الاختلافات المشار إليها. ويذكرنا بأن السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا المنحدرتين من «التقليد الدوركايمي لم تهتما ب «الثقافة المادية» ("culture matérielle") وهمشتها لصالح "ما هو اجتماعي" "le social"
[102].
وهذا "العامل التقني" الحاسم والمحدد والذي أحدث انقلابا في تاريخ الإنسانية يقصد به "جاك غودي" الكتابة طبعا. ولهذا، فهو يقارن عمله ب «عمل الباحثة إزنشتاين في مجال التواصل حول نتائج وتأثيرات المطبعة (1979)، أو عمل توركل Turkle حول آثار الحاسوب على العقل البشري (1984) أو عمل وايت white في المجال الفلاحي، حول العربة (1940)
[103].
إن تأثيرات الكتابة إذن، في تقدير غودي، كانت بمثابة تأثيرات المطبعة والحاسوب والعربة. إنها تأثيرات حاسمة وثورية.
لا يتعلق الأمر إذن بدراسة الذهنيات. ومن هنا فهو ضد النزعة التطورية وفكرة "التقدم" كما بلورتها يقول غودي «أحسن السوسيولوجيات (كونت، ماركس، سبانسر، فيبر ودوركايم) وكذا أحسن الأنتروبولوجيات (ماين، مورغان، تايلور، روبرتسون، سميث وفرايزر)، هؤلاء الذين لم تتخلص دراساتهم المقارنة من فكرة التطور التي لا تخلو من نزعة إثنية»
[104]. وهي دراسات ونظريات تحاول الإجابة عن أسئلة تهم «طبيعة الاختلافات» بين الثقافات باستدعاء ألفاظ عامة: الانتقال من الأسطورة إلى التاريخ، من السحر إلى العلم، من الاتفاق إلى العقد، من البارد إلى الساخن، من الملموس إلى المجرد، من الجماعي إلى الفردي، من الطقوسي إلى العقلاني»
[105].
إننا هنا، يقول غودي، بإزاء أحكام قيمة ومقولات عائمة (grossières). ولعل أكبر نموذج على ذلك هو ذلك التقسيم الذي يقيمه "ليفي- برول" بين «عقليات ما قبل – منطقية، وعقليات منطقية»
[106].
يريد "جاك غودي"، من خلال هذه الانتقادات الموجهة للإرث السوسيولوجي والأنتروبولوجي الغربي، أن يضع نفسه خارج دائرة من يفسرون الاختلافات بناء على منظور ثنائي.
والجدير بالذكر أن جاك غودي يخص كلود ليفي ستراوس بنقد إستثنائي،إن صحت العبارة، لعدة اعتبارات منها أن ستراوس، في دراساته وتحليلاته، لم يركز على الاختلافات فقط بل «وعلى التشابهات أيضا»
[107]، ولكنه مع ذلك، وبالرغم من محاولاته التحرر من النزعة المركزية الاثنية، فإنه، في نظر غودي، ظل حبيس منطق التقسيم الثنائي بين «الفكر المتوحش» و «الفكر الأليف»، وهذا – يقول غودي - «يذكرنا بذلك التقابل التقليدي بين «النحن» و«هم»»
[108].
بيد أن جاك غودي لا ينفي أهمية التحليلات التي قدمها ليفي ستراوس رغم ما يعتريها من نواقص.
ويمكن تلخيص الانتقادات التي يوجهها جاك غودي لليفي ستراوس في مسألة أساسية تكمن في أن هذا الأخير لا يربط بين الكتابة والحضارة
[109].
إن الفرضية الأساسية الموجهة لمقاربة جاك غودي الأنتروبولوجية هي أن الاختلافات بين الحضارات والمجتمعات الإنسانية ليست في «العقليات بل في أنظمة التواصل لا غير» يقول غودي في هذا الصدد : «يجب علينا الكف عن النظر إلى التغيرات التي مست الفكر الإنساني من منظور ثنائيات المركزية الاثنية التي تميز النظرية السوسيولوجية المعاصرة بالغرب، والأفضل من ذلك هو أن نبحث لهذه الاختلافات عن معايير خاصة بحيث لا يجب تجاهل وإقصاء العناصر المادية»
[110]. لا ينفي غودي، بطبيعة الحال، «وجود اختلافات بين «فكرهم»و «فكرنا»، كما لا ينفي قيمة المشاكل التي أثارها دوركايم أو ليفي برول أو ليفي ستراوس»
[111]، بل يرى أن المشكلة تكمن في طريقة مقاربة وتناول تلك المشكلات/ القضايا.
[112]يجب إذن – يقول غودي – أن نمنح للتحولات في مجال التواصل الأهمية التي تستحق، نظرا لدورها الحاسم والمحدد، ونظرا لأن «إدخال الكتابة كان له تأثيرات مهمة على الميادين السياسية والاقتصادية والدينية، وعلى القرابة والمؤسسات المرتبطة بها»
[113]. وإذا كان "جاك غودي" يركز على العامل التقني في تفسير طبيعة الاختلافات، فإنه يحرص أن ينبه على أن الأمر لا يتعلق ب «تفسير أحادي»
[114]. أي رفض «التفسير العلي» "explication causale"
[115]. هناك إذن تداخل العوامل، لكن ثمة عوامل محددة. لكن «السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا المتأثرتين بالتقليد الدوركايمي، تجاهلت التحولات التقنية»
[116]. ويعزو غودي ذلك إلى سببين أساسيين: «يتمثل الأول في محاورة حصر السوسيولوجيا في ميدان الوقائع التي يطلق عليها الوقائع "الاجتماعية". ونفس الشيء يقال عن الأنتروبولوجيا الاجتماعية (المنحدرة من الأصل الدروكايمي) والتي تنزع نحو ضرب الصفح عن دراسة «الثقافة المادية» لصالح «ما هو إجتماعي»»
[117]. والسبب الثاني يرجع، لا إلى التقليد الدوركايمي هذه المرة، بل إلى ماكس فيبر الذي «لم يفعل إلا على تحوير أطروحات كارل ماركس جزئيا، إذ بدل التركيز على الإنتاج يركز على الايديولوجيا، أي استبدال «البنية التحتية» ب «البنية الفوقية»»
[118].
وبهذا الخصوص يبدي "جاك غودي" معارضة صارمة إذ يرفض إدراج أية اعتبارات إيديولوجية، إذ يجب مركزة الاهتمام بالأحرى على العوامل التقنية (أو التكنولوجية) والتي «يجب أن يتم تقييمها بمعزل عن مثل هذه الاعتبارات الايديولوجية»
[119].
ومن جهة أخرى،وأثناء دلك، يقدم غودي تصورا جديدا للكتابة، ومن هنا استعماله لمفهوم «العقل الطباعي» "raison graphique" الذي يرجع إلى مراحل تاريخية سحيقة إذ «كان للمعالجة الطباعية (الغرافيكية) للمعلومة في المراحل الأولى للحضارات المكتوبة بالشرق الأوسط، ولظهور اللوائح والجداول دورا حاسما في تطور الفكر»
[120]. ومن هنا يعترض على القائلين بأن الحضارة الغربية هي وحدها التي عرفت الفكر العقلاني وظاهرة البيروقراطية كما عند ماكس فيبر على سبيل المثال.
ومن بين ما يتميز به تصور جاك غودي حول الكتابة هو تأكيده على أنها ليست «مجرد تسجيل صوتي (فونوغرافي) للكلام»
[121].وهده العلاقة بين الكتابة والكلام شكلت موضوعا خصبا للسانيين وعلى رأسهم ليفي ستروس، وكدا الفلاسفة وعلى رأسهم جاك دريدا.
يمكن القول بصفة إجمالية، إن مشروع "جاك غودي" يتلخص في مراجعة النظريات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية حول طبيعة الاختلافات بين الثقافات على قاعدة منظور جديد. يقول: «إنني مع الأخذ بعين الاعتبار لصيغ معالجة "الثقافات الأخرى" في مقابل "ثقافتنا" من طرف الكثيرين، أحاول رد الاعتبار لدور التغيرات في مجال وسائل الاتصال، حتى أتمكن من الوقوف على هذه الاختلافات بكثير من الدقة والصرامة»
[122]. هكذا – يقول غودي دائما – يمكننا «تجنب السقوط في ما يسمى بنظرية "الحد الفاصل" "Le Grand Partage"»
[123]. فالتقسيمات الثنائية: (بدائي/متحضر، متوحش/أليف، تقليدي/حداثي، بارد/ساخن، منغلق/منفتح، نامي/في طريق النمو، ماقبل- منطقي/منطقي، أسطوري- شعري/منطقي ـ وضعي) هي تقسيمات متهافتة بالنظر إلى تعقد مسألة التطور الإنساني ... ولأنها ثنائيات لا تمكن لا من تفسير الاختلافات ولا فهم ميكانيزمات التغير»
[124]. وفي مقابل ذلك، يرى غودي أن البحث عن تفسير الاختلافات يكمن في التساؤل عما إذا كانت هذه الاختلافات الثقافية (سواء تعلقت بالشكل أو بالمضمون) نتاج التحولات التي حصلت في وسائل وأدوات التواصل»
[125].
إن الكتابة إذن، كأداة جديدة للتواصل، هي التي، في نظره، "العامل المحدد" (Facteur déterminant). غير أن غودي في الوقت الذي يركز فيه على الدور الرئيسي والحاسم للكتابة، فإنه لا يعتبرها «إلا كأحد المتغيرات»
[126]، وبالتالي يعترض على ما يسميه ب «نظرية العامل الواحد».
("Théorie uni-factorielle")
[127]. لكن المؤكد عند غودي، هو أن الكتابة قد أحدثت ثورة كبرى وقفزة (un bond) ثقافية في تاريخ الإنسانية كما سلفت الإشارة، وحتى إن لم تكن هناك «حتمية أحادية»
[128]، فإن الأمر يتعلق «بعامل دال significatif»
[129] ألا وهو الكتابة.
إن طبيعة الاختلافات بين الثقافات والحضارات ليست إذن عرقية أو فكرية إنما تقنية بالأساس. تبعا لهذا، فإن أصل "التفوق" (وهو تفوق لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال) للثقافات المكتوبة، إنما هو راجع إلى عامل رئيسي يتمثل في ما تمنحه الكتابة من «إمكانيات تخزين وتجميع stockage للمعارف»
[130].
إن جاك غودي بهذا يعيد النظر في أفكار وأطروحات ونظريات كانت تجري مجرى البداهة فيما يتصل بتطور المجتمعات والاختلاف بين الثقافات. ومن بين مظاهر ذلك، إلى جانب ما تقدم، اعتباره أن "تفوق" الغرب لا يجد جذوره في اليونان أو الرومان، بل في بلاد الرافدين وبمصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة عندما تم اختراع الكتابة. وهذا الموقف يندرج ضمن ما صار يسمى ب «الأصول الشرقية» للغرب. وهي أطروحة أنصارها من الباحثين كثر، ومن مشارب وآفاق مختلفة. بهذا المعنى يرى غودي بأنه إذا جاز لنا أن نتحدث عن معجزة، فإن «المعجزة اليونانية» كانت جد متخلفة بالقياس إلى «المعجزة الشرقية»
[131].
إن الأسئلة التي واجهت غودي والتي تصدى لها بالتحليل والمناقشة، كانت موضوعالنقاشات غنية بين الأنتروبولوجيين والسوسيولوجيين والسيكولوجيين والمؤرخين والفلاسفة...، وقد حاول أن يرسم لنفسه مسلكا خاصا ومتميزا. ويمكن القول، على سبيل الخلاصة، إن الملامح العامة لنظرية جاك غودي في ،ما نحن بصدده، تتمثل في: نقد النزعة الاثنية والمركزية الغربية، ونقد التقسيمات والتصنيفات الثنائية، ورفض ما يسمى ب «الحد الفاصل» بين الثقافات والحضارات وكذا "النزعة التطورية".
وبالجملة ، يمكن تلخيص موقف ج.غودي فيما يلي :
* نقد الفكر الثنائي أو الاختزالية الثنائية :
ان تحول وسائل الاتصال كان من نتائجه العميقة تحول في سيرورات المعرفة . ومشروعه بصفة عامة يندرج ضمن نقد ما يسميه "الثنائيات الاختزالية" أو "الفكر الثنائي" كما نجده عند كل من دوركايم و فيبر وكونت.مع الاتفاق الجزئي مع ليفي ستراوس الذي يستعير منه مفهوم الفكر المتوحش بدلالته الايجابية.
* تدجين الفكر المتوحش :
تعتمد الكتابة في بداية نشأتها على مجموعة من الاجراءات التقنية يلخصها جاك غودي في ثلاثة هي اللائحة ، والصيغة – formule , والجدول.وهده الاجراءات كانت الأساس لنشأة "الفكر المنطقي" وكدا "تدجين الفكر المتوحش".
انها الاجراءات التي أحدثت ثورة على المستوى المعرفي ، وبشكل أخص
اللائحة باعتبارها التقنية الآقدم والتي يفصل فيها غودي القول أكثر من غيرها، مؤكدا ان الكتابات السومرية الآولى لم تكن خطية ، لا شعرا ولا نثرا، بل كانت مصاغة في شكل لوائح. ثم الجدولكاجراء تقني لتنظيم المعرفة وتبسيط الواقع عبر اجراء تقابلات، وتضادات ،وتماثلات ،وتناقضات ، كعمليات تعتبر متكأ فعالا للفكر.
وتبعا لذلك ،فان الكتابة في نظر ج.غودي كانت بمثابة الرافعة الأساسية للعلم والسبب الرئيسي في انفجار المعارف الانسانية على امداد تاريخ الانسانية.ينطبق هذا على الكتابة ببلاد بابل ، والكتابة الآبجدية في بلاد الاغريق ، واختراع الطباعة في القرن الخامس عشر الميلادي. يعتبر غودي الكتابة في هذا السياق كتفنية للتواصل التي بفعلها حدثت تغيرات جذرية في السباسة والاقتصاد والدين ، فضلا عن كونها أداة عقلية أحدثت ثورة ذهنية كما كانت السبب المباشر في نشأة العقل العلمي.
4 ـ التأثيرات الاجتماعية والفكرية للكتابة:
أ- التأثيرات الاجتماعية:
إن التحولات التي طرأت على على البنية الاجتماعية جاءت نتيجة للتحولات الاقتصادية ولتطور اشكال السلطة التي لعبت الكتابة دورا حاسما فيها.وأكبر مظهر لهده التحولات الاجتماعية هي المتعلقة بتغير أدوات وأنماط التواصل. وهده التحولات ارتبكت بشكل مباشر بظاهرتين أساسيتين هما: إحلال القانون محل العرف نظرا لتبعية الكتابة لسلطة الدولة اد ستلعب دورا رئيسيا في إثبات الملكية والعلاقات التعاقدية بل ومعيارها، ونشأة البيروقراطية.لكن أية علاقة بين الكتابة والبيروقراطية ?
يعتبر ماكس فيبر أول من منح للبيروقراطية مضمونا محددا ودقيقا لهدا المفهوم. ويقصد بها بشكل عام» شكلا للتنظيم العام الدي يتميز بغلبة القواعد والإجراءات التي تطبق من طرف موظفين مختصين بشكل يتجاوز الأشخاص.هؤلاء الموظفون يطبقون القواعد دون مناقشة الأهداف والأسباب التي تنبني عليها تلك الأهداف. وعليهم إثبات حيادهم وتجاهل مصالحهم الخاصة لصالح المنفعة العامة ... «
[132]ويعدد ماكس فيبر عدة خصائص للتنظيمات البيروقراطية. وقد أشار إلى أن من أهم: تلك الخصائص"" تسيير الشؤون العامة على قاعدة الوثائق المكتوبة «
[133].وحسب جاك غودي فان العديد من الخصائص الأخرى للبيروقراطية، كما يحددها ماكس فيبر، ترتبط بالكتابة » كالاختبارات الكتابية "الموضوعية" الخاصة بالتوظيف في العمل. أي تلك الاختبارات التي تسمح باختبار قدرة المرشحين على التحكم في الأدوات الأساسية للتواصل الإداري كالرسائل والملفات والتقارير"
[134]إن تنامي البيروقراطية ادن أمر متوقف،إلى حد كبير ، على " امكانيات الضبط والمراقبة التي صارت ممكنة مع التقنيات الكتابية لعملية التواصل "
[135]لقد مكن استعمال الكتابة من تجاوز العلاقات الشخصية المباشرة حيث لا حاجة للكتابة. وفي ارتباط مع البعد القانوني لظاهرة الكتابة فقد "لعب التسجيل l’enregistrement دورا كبيرا في تعويض ما يسمى بميثاق الثقة الشفوي،كما عوضت مسألة الشهود"
[136].أي تعويض المشاكل التي تعد من "المعيقات الكبرى للتسيير الإداري في الدول التي بدون كتابة".
[137]إن الوثيقة المكتوبة هي التي صارت تلعب دور الدليل والضمانة سواء في عمليات الملكية أو المبادلات بكل أنواعها.بعبارة أخرى، إن استعمال الكتابة قد سهل مجموعة من المهام الإدارية كما طور إمكانية تخزين المعلومات. وبناء على هدا نستنتج بان " غياب الكتابة يحد بالضرورة من فعالية الدولة"
[138]. وفي المقابل، وفي بلاد الرافدين " سمحت الكتابة بإمكانية التحكم اقتصاديا وسياسيا واداريا"
[139] حيث يمكن أن نتحدث عن "الاستعمال البيروقراطي الأول للكتابة"
[140].
ب- التأثيرات الفكرية:
لقد صار من الثابت ادن أن الكتابة قد أثرت إلى حد كبير في تقدم المعرفة الإنسانية، وانتاج مختلف المعارف والعلوم. لكن هدا التأثير لا يبتدأ مع المرحلة اليونانية كما يذهب إلى دلك اغلب الباحثين، بل يرجع إلى تاريخ ظهور الكتابة ببلاد الرافدين ومصر.
يلاحظ جاك غودي ،خاصة في كتابه "العقل الكتابي"، انه عندما يتم الحديث عن دور الكتابة في تطور المعرفة الإنسانية، ينصرف الاهتمام مباشرة إلى اليونان، والحال أن تأثيرات الكتابة على العمليات الدهنية ينطبق بشكل خاص على بلاد الرافدين ومصر. لكن غودي مع دلك، يقر بان أنظمة الكتابة القديمة كالمسمارية والهيروغلافية " لم تكن على نفس المستوى مع نظام الأبجدية.... رغم كونهما،وان في حدود معينة، قد أديتا نفس الدوار والغايات"
[141].
إن مركز اهتمام جاك غودي اذن هو التوقف على نتائج وتأثيرات الكتابات الأولى/الأصلية، أي الماقبل ـ أبجدية pré-alphabétiques سواء على " تنظيم الحياة الاجتماعية أو عل أنظمة المعرفة"
[142]. ليؤكد ، عبر دلك، ان الكتابة ، كوسيلة جديدة للتواصل، قد "غيرت طبيعة سيرورات المعرفة"
[143]. بل قد كان لها مساهمة أساسية في تطور أشكال جديدة من العمليات الصورية والمنطقية"
[144]، وكدا تطور البنيات الذهنية.
بفضل الكتابة ستظهر وستنمو أنماط عقلانية وعلمية للتفكير المجرد. وقد تحقق ذلك بفعل عامل أساسي وهو أن الكتابة أصبحت ك"ذاكرة خارجية" تلعب دورا أساسيا هو التخزين )تخزين المعارف(
[145]. وبفضل عملية مراكمة المعلومات والمعارف ينشأ العلم. يتعلق الأمر ب"سيرورة تراكمية هي التي مكنت من خلق "علوم مركبة"
[146] وبصفة عامة فان الكتابة على هذا المستوى ، أي في تعالقها مع الفكر، " تلعب وظيفتين أساسيتين : وظيفة التخزين للمعلومة التي تسمح بالتواصل عبر الزمان والمكان والذي يتيح للإنسان إمكانية التسجيل والحفظ والتوثيق.....الخ، ومن جهة أخرى [.......] وظيفة ضمان الانتقال من الميدان السمعي إلى الميدان البصري بما يسمح بمعالة مغايرة وإعادة الترتيب وتصحيح العبارة"
[147]. وكذا اللعب على الكلمات أو "لعب العقل على اللغة" بعبارة جاك غودي . وهكذا كان بالا مكان ظهور المنطق والرياضيات والفلسفة والعلوم.
يقول غودي إن " التسجيل الكتابي للكلام قد مكن ، وبوضوح، من فصل الكلمات بعضها عن بعض،واللعب بها والتحكم في نظامها ، وبفعل ذلك ظهرت أشكال للقياس في عمليات الاستدلال"
[148] وكذا " التحكم في الفائض الشفوي عبر تصنيفه وتقطيعه"
[149].
لقد عرف العلم تطورا كبيرا بمجرد توسع وانتشار استعمال الكتابة ومن ثمة ف"تطور الرياضيات البابلية كان مشروطا بتطور مسبق لنظام كتابي"
ونفس الشيء يقال عن "المنطق الرمزي والجبر[...]. حيث لم يكن من الممكن تصور وجودهما دون وجود مسبق للكتابة"
[150]إلى جانب هذا " ظهرت خلال المرحلة البابلية تقييدات تهم المسح العقاري واللوائح الخاصة بطلوع الشمس والقمر،وهي اللوائح التي مكنت كم ظهور علم فلك توقعي حقيقي".
[151]يعتبر ج.غودي أن اللائحة،إلى جانب دورها التنظيمي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، "قد أحدثت ثورة حقيقية في سيرورة البناء المفاهيمي،"كما لعبت دورا فعالا في حفظ المعلومات ومراكمتها وتسجيل الظواهر الملاحظة ، الشيء الذي نتج عنه ظهور ما يسميه صاحبنا ب"علوم الملاحظة ".
[152] 5- خصائص العلم الرافدي
أ- علم الجداول:
ان من بين السمات الأساسية للفكر الرافدي ـ كما يدكرنا بدلك روني تاتون ـ هي ما يسمي عادة ب "علم اللوائح"
[153]إن اللوائح والجداول أداة لتنظيم المعرفة " فوضع اللائحة هو بمثابة سيرورة معرفية"
[154]و"تخطيط للفعل". وبهذا المعنى ف"الجدول ليس مجرد تسجيل فونوغرافي للكلام" ، بل "نصا مرجعيا في حد ذاته".
[155]لقد كانت الاستعمالات الأولى للكتابة إذن في شكل لوائح وجداول استجابة لحاجات الدولة الاقتصادية والمحاسباتية ولما يقتضيه " تنظيم دولتي معقد ومتشابك"
[156] في ظل نمو اقتصادي وتجاري وحضاري على عهد الآشوريين والبابليين.وهذه اللوائح والجداول خاصة اما بالمبيعات والمقتنيات أو بالمواليد والوفيات أو بالأنساب أو بالعقود والمشارطات أو بالغنائم و القرابين *و المراقبات الفلكية والأحكام القضائية ....الخ وقد كانت تستعمل بعض هذه الجداول في المدارس لأداء وظيفة تعليمية ".
[157] بالالتفات إلى ما سبق يتضح أن اللوائح والجداول نشاط معرفي/ذهني تتيح" إمكانيات التحليل والتقطيع .....الخ.كما أنها وسيلة بفضلها وبفعلها يتوصل عقل الإنسان إلى التحكم في الواقع عمليا ونظريا.وهي عمليات ساهمت بشكل حاسم في "تحويل السيرورات الذهنية وتنظيم الأنساق المعرفية" وذلك بفضل "عمليات الصورنة"
[158] التــــــــــــــــــــــــــــــي
: هي نوع من "الإخراج من السياق"
decontextualisation
وبناء عليه،فان الكتابة تتجاوز كونها مجرد "قدرة تقنية إلى كونها "قدرة عقلية"
[159]لقد " أفرزت الكتابة وعيا كبيرا بالصور والصورنة.كما كانت الأساس لكل التطورات الكبرى في الميادين الفنية والعلمية بشكل خاص"
[160]فضلا عن أنها تمكن من معالجـــــــــــــــــــــــة
أكثر دقة للمعرفة المتداولة ، والفصل بين اللوغوس والدوكسا،والنفاذ بشكل أكثر عمقا إلى "الحقيقة".وهذه الوسائل هي التي فتحت الطريق نحو التسجيل والتحليل النسقيين للمعطيات المستعملة في الجداول الفلكية عند البابليين وفي مبرهنات الهندسة الأوقليدية ،وكذا صورنة الأشكال التصنيفية".
[161]هكذا ستكون الكتابة عاملا حاسما في " تطوير الفكر المجرد انطلاقا من بناء علم بالمحسوس ، والانتقال من الرموز الى المفاهيم ، والتخلي تدريجيا عن الحدس والخيال والإدراك ، من أجل تدشين سيرورة تطورية وتراكمية ونسقية للمعرفة."
[162]ب- علم الحاجات العملية:
يقول بوطيرو: "حين نتحدث عن "علم" لا نعتمد في مرجعيتنا على مفهومنا الحالي لل"علم"، ولا حتى مفهوم اليونانيين، بما ان الرافديين لم يكونوا يعرفون لا المفاهيم المجردة بحصر المعنى، ولا "القوانين" ولا "المبادئ الشاملة". لم تكن رؤيتهم للأشياء حين تتوخى العقلانية والدقة وحتى النظرة النقدية لم تكن تعمل تماما على طريقتنا.الحاصل ان مفهوم "المعرفة لأجل المعلافة"كان بداهة مجهولا. لم يكن هناك غير "المعرفة لأجل العمل" ـ "المعرفة ـ العمل"
[163] .
لقد كان للعلم بعد عملي بالدرجة الأولى،بل كان ظاهرة اجتماعية.وفي هدا يقول والتر ف.رينكي : " نعني بالعلم ها هنا شكل خاص للنشاط الاجتماعي والذي ،عبر الملاحظة والتجمبع ، والتحليل والتنظيم النسقي للوقائع التجريبية ، وكذا عبر المحاولات والتجارب ـ تستدعي احيانا استعمال عدة وادوات خاصة، ـ تترتب عنه نتائج تمكن من تطوير فائدة وفعالية العلاقات بين الانسان ومحيطه المادي والاجتماعي"
[164] .ويضيف قائلا " ان نتائج النشاط العلمي تمكن من تطوير الانتاج واعادة الانتاج ، كما انها ايضا اداة للسلطة"
[165]تشهد النصوص المتوفرة على هذا الطابع العملي . " ان النصوص الرياضية لآسيا الغربية ومصر شديدة الصلة بالمشاكل العملية للمحاسبة ........ والقياس، رغم ان بعض تمارين الجبر تتعلق بأعداد لا نصادفها دائما في الممارسة، وهذا ما يدل على نوع من الاهتمام بالأسئلة النظرية . فضلا عن هذا فان نظام النصوص لمختلف المصنفات يطرح تمارين رياضية دون التصريح بالمبادئ البي تنبني عليها، وهذا ما يشكل فرقا جوهريا بين العلم بهذه البلدان والعلم اليوناني الذي سيرى النور بعد ألفي سنة. وكما هو معلوم ، فان اليونانيين يعترفون بدينهم للعلم الشرقي... "
[166].
لا يمكن باي حال من الأحوال نفي الطابع التجريدي عن العلوم القديمة رغم طابعها العملي . لقد كانت لدى الرافديين " مزايا دهنية ربما جعلتهم اكثر ميلا لمواجهة مشاكلهم بنظرة حادة، لا أتردد في تسميتها " عقلانية" "
[167].
وبهدا المعنى ليست العقلانية خاصية للفكر الحديث فحسب كما شاع دلك ،بل " ان كل المجتمعات عقلانية"
[168]. ومنذ ليفي ستراوس على الأقل عند صدور كتابه " الفكر المتوحش" فقد بين الأنتروبولوجيون ان "لكل المجتمعات المسماة " بدائية" متون من المعارف النباتية والطبية والحيوانية والتقنيةةالخ .. والتي لا يمكن احتزالها في مجرد معتقدات أسطورية"
[169]. ليس العقل ادن ابتكارا يونانيا مفاجئا.
ان العقلانية بهدا المعنى لا تنفصل عن الميتافيزيقا.وفي هدا الصدد يورد جاك غودي تعريفا ل وارتوفسكي للميتافيزيقا : " ان الميتافيزيقا هي ممارسة العقلانية في شكلها النظري السامي"
[170]لقد كان البابليون مدفوعين بالرغبة في " معرفة العالم بكامله من حولهم، طبيعة وثقافة،الرغبة بترتيبه،والبحث عن ثوابته وخطوطه الكبرى،ميزاته الخاصة وتفاصيله الكاشفة"
[171]. وهذا ما "ميز موقفهم من المعرفة و"العلم".بل كونوا لأنفسهم ـ مهيئين بدلك الطربق لليونان ـ فكرة عن الضرورة التي تربط الأشياء بعضها ببعض، وعن الطابع الشامل والثابت لهده الرابطة"
[172]غير ان هذا التجريد لم يبلغ الا درجة دنيا .يقول هنري جون مارتان " ان ظهور الكتابة كان مرتبطا عندهم ( الرافديين) بضرورة تطوير قدراتهم الحسابية.وفي هدا لم ينتهوا ،رغم دلك، الى التعميم والتجريد"
[173].
"لقد وضع البابليون أنظمة حسابية مهمة ووضعوا جداول رياضية كجداول الضرب والقسمة والجدور واللغاريتية لكن دون ان يقيموا برهانا رياضيا عاما"
[174].
نفس الشيء ينطبق على علم الفلك حيث يبدو الهاجس العملي ـ النفعي ، بالمعنى الواسع للكلمة، أكثر وضوحا.
يقول بوطيرو متحدثا عن الرافديين دائما :" من الواضح جدا انهم كانوا مراقبين كبارا ففي رسائلهم.... جمعوا عشرات الآلاف من الظواهر ، وسعوا لتقريب احداها من الأخرى، لترتيبها وتصنيفها، ليس بدافع متعة "الجمع" . انما في سبيل فهمها كانوا يعرفون ان مقارنة الأشياء يوضح طبيعتها دوما"
[175]يرى فن درفردن ان " علم الفلك أقدم علم طبيعي" حيث احتل مكانة مرموقة على اساس الفائدة العملية التي كان يمثلها بالنسبة لممارسة التنجيم.اد يحتاج المنجمون الى جداول تعبر عن حركة الأجرام السماوية وموقع كل واحد بالنسبة للأجرام الأخرى،لكي يبنوا عليها قراءاتهم وتنبؤاتهم للمستقبل. كانت هده الجداول بمثابة سجلات طويلة ودقيقة تسجل فيها نتائج الملاحظات المتكررة والمنتظمة عبر أجيال، معبر عنها بالحساب والجداول والرسوم.ان تخطيط الدولة في شؤون الزراعة والتجارة والتوسع والحرب ، وغير دلك من الأنشطة الحيوية ، كان يستند الى استغلال هده الجداول ،للتنبؤ بلأزمات والكوارث وأحوال الطقس،وللتصرف المناسب على ضوئها.كما كان الحكام يتوقفون عليها للتهيؤ لاستقبال ما يمكن ان يطرأ على أحوالهم الشخصية....... لقد كان التنجيم يقدم معرفة للتنبؤ والتوقع...."
[176]. وكـأن الآمر يتعلق ب"علم مقدس"
[177]وتذكر مارغريت روتن بخاصية أساسية للعلوم القديمة يتجلى في مبدأ المماثلة ، على قاعدة المماثلة بين السماء والأرض.
[178]ومن جهة اخرى فان " علم الفلك البابلي ،رغم طابعه المتقدم، ظل ،قبل كل شيء ، مرتبطا بديانة تنجيمية وبالسحر. ......، والمستكتبون الدين تكلفوا بالملاحظة لحساب الملوك.... نجحوا في اكتساب معرفة دقيقة ببعض الظواهر .لكنهم ظلوا كحسابيين ولم ينشغلوا ابدا بانشاء نمودج هندسي."
[179]خاتمــــــــــــــــة
لا شك ان الاحاطة بموضوع الكتابة من جهة علاقتها بالعلم أمر في غاية الصعوبة ، ويحتاج الى تدقيقات مفصلة يمليها تقاطع المقاربات للموضوع المطروح : تاريخية ، ولسانية ، وأنتربولوجية و فلسفية.
لقد حاولنا بيان كيف كانت الكتابة منذ ميلادها كعامل مفسر لنشأة الحضارة وللفكر العلمي ، والرافعة الآساسية لانبثاق العلم وتخصيبه بالنظر الى الخصوصيات الداخلية لنظام الكتابة والاجراءات التي توظفها.
وقد تبين لنا كيف أن الكتابة لم تكن لها تأثيرات على مستوى عقلنة "السيرورات المعرفية" بفضل ما حملته من تقنيات وطرق جديدة للتفكير ، فحسب بل على مستوى عقلنة الاجراءات الاقتصادية ( تقنيات المحاسبة) أيضا.
وبالجملة ، فقد كانت الكتابة شرطا ضروريا وسببا كافيا لتكون الفكر العلمي ببلاد الرافدين واشعاع حضاري غير مسبوق وصفه البعض ب"المعجزة الشرقية".
وبفضل الكتابة الآبجدية اليونانية ، لما لها من مميزات خاصة ، ستعرف بلاد الاغريق ثورة ثقافية وفكرية متفردة سميت ب"المعجزة اليونانية".
[1] - Cf. Histoire du livre – Albert labarre. Eds, PUF. 6ème édition : 1994.
[2] - Henri – Jan Martin, Histoire et pouvoirs de l’écrit. Albin Michel, 1996. P : 39.
[3] - Ibid . P : 42
[4] جون بيير فرنان ، أصول الفكر اليوناني. ترجمة د.سليم حداد .المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. 1987.ص 30
[5] Karl poper,Littérature , science et démocratie : y a-t-il un lien ?. in : Karl Poper la leçon de siécle.traduit de l’italien par Jacqueline Henry claude orsoni. Bibliothéques 10/18.1993. PP :96-97
[6] - Achille weinberg, un tremplin pour la pensée. [Sciences Humaines – Revue – N° 109, octobre 2000, P : 22]
[7] - Jack Goody, La raison graphique – La domestication de la pensé sauvage – traduction et présentation de Jean bazin et Alban bensa. Eds. Minuit. 1979. P: 26
[8] - Jack Goody, La logique de l’écriture – Aux origines des société humaines – Armand colin Editeur, Paris. 1986. P : 97
[9] - Jean bazin et Alban bensa – Avant-propos. In : La raison graphique. Op. cit. P : 27
[10] - أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدمة، دار العودة، بيروت 1988 ، ج1 ، ص: 194 .
[11] - علي أومليل، السلطلة الثقافية والسلطة السياسية. مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 ، بيروت 1996 ، ص 53.
[12]- Achille weinbergK op. Cit. P : 22
[13] - ملخص الأسطورة – كما يوردها Achille weinberg هو: الصراع بين مدينتي "أوروك" URUK عاصمة بلاد سومر، و"أراتا" Aratta إحدى المدن النائية. أي صراع بين زعيمين؛ الملك إنمركار Enmerkar ملك "أوروك" و"حاكم أراتا". فإنمركار سيعمل، في مناسبات عديدة، على إرسال مبعوث إلى حاكم "أراتا" يدعوه من خلاله إلى الطاعة والولاء. ويكون المبعوث مزودا بهدايا يرفض "حاكم أراتا" تسلمها لأنه أدرك أن قبول الهدية سيجعله في موقع من سيكون مطالبا برد الدين، ومن ثمة في وضعية خضوع رمزي. وبعد محاولات عديدة لم تسفر على أية نتيجة، سيبعث الملك إنمركار برسالة مكتوبة على قطعة من الخشب. وهو بهذا الفعل سيبتكر الكتابة، لم يجد "حاكم أراتا" بدا من أخذ الرسالة بين يديه، لكنه لن يفهم مضمونها طبعا، فإنمركار هو وحده الذي يعرف ما كتبه ووحده من ثم يمتلك سر المكتوب. وبهذا نجحت خطته. ونتيجة هذا هو أن "حاكم أتارا" سيصبح تحت سيطرة "قائد أوروك" لكونه قبل الهدية، إذ هو بذلك يكون قد قدم البيعة.
وإذا كانت الكتابة – حسب هذه الأسطورة – اختراعا إنسانيا، فإن هناك أساطير أخرى يُفهم منها أنها (الكتابة) إختراع/خلق إلهي: «فبالنسبة للأكاديين Akkadiens ، فالكتابة من أصل أسطوري، إذ تنسب إلى "أوانيس" Oannès : الرجل السمكة الذي جاء من السماء إلى الأرض لكي يعلم للناس الفنون والعلوم والتقنيات» [Dictionnaire de linguistique, Larousse 1989 - P : 179]
كما نقرأ في محاورة "فايدروس" لأفلاطون على لسان سقراط الذي يوجه كلامه لفايدروس، ما يلي: «لقد سمعت رواية تروي أنه قد عاش بمصر بالقرب من «نقراطيس» أحد الآلهة القديمة في تلك البلاد، وكانوا يرمزون لهذا الإله بالطائر الذي يسمونه كما تعلم «إبيس». أما الإله فإن اسمه «تحوت». وهو أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والفلك، وكذلك لعبة النرد والزهر، وأخيرا اكتشف أيضا حروف الأبجدية».
[محاورة فايدروس لأفلاطون أو عن الجمال. ترجمة وتقديم: د. أميرة حلمي مطر. دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع. 2000 القاهرة. ص ص: 109-110].
[14] - Achille weinberg. Op. Cit. P : 22.
[15] - Ibidem
[16] - التدين والعقل في بلاد الرافدين – جان بوطيرو – ترجمة: حميد جسوس، عز الدين الخطابي، [قيد الطبع].
[17] - الشفاهية والكتابية. تأليف: والترج. أونج. ترجمة: د. حسن البنا عز الدين. سلسلة عالم المعرفة – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت – ص : 157 .
[18] - Henri – Jean Martin. Op. cit. [Préface. P : V].
[19] - Ibidem
الورق او الكاغد اختراع صيني من طرف رجل يدعى تساي لون. وظل حبيسا في جنوب شرق اسيا ختى القرن السابع الميلادي. ففي عام 751م أسر الآمير زياد بن صالح اثر واقعة أطلخ عددا كبيرا من أسرى الحرب الصينيين قي مدينة سمرقند وخيرهم بين العتق والرق وجعل ثمن العتق مباشرة حرفة من الحرف ، فاتضح ان عددا كبيرا من أولئك الأسرى الصينيين يجيدون صناعة الورق ، فتم عتقهم وشيدت لهم المصانع.ومع مضي الزمن تقدمت تلك الصناعة التي وجدت سوقا رائجة في مختلف أنحاء العالم الاسلامي ، وبخاصة في عاصمة الدولة العباسية بغداد . وقد أمر الخليفة المنصوربالتوسع في صناعة الورق وانتاجه لشدة الحاجة اليه في دواوين الحكومة والمؤسسات التعليمية والعلمية. لينتشر الورق فيما بعد في بقاع متعددة في بلاد الاسلام ومنها دخل الى أوروبا واشتهر.وقد دخل الورق الى أوروبا عن طريق الآندلس من جهة وعن طريق صقلية من جهة أخرى.
[أنظر :الكتب والمكتبات في العصور الوسطى. تأليف شعبان عبد العزيز خليفة. الدار المصرية اللبنانية. القاهرة. 1997. وكذلك مادة:
في:KÃGHAD
Encyclopédie de l’islam Tome 4/ leiden-paris.1978..PP :437-438
و:
Albert Labarre,Histoire du livre. P.U.F.Paris1970.PP :36-37 [20]
[21] - Ecriture et inauthenticité. in : Pierre Petitgirard : Philosophie du langage : textes de Platon à Haidegger. Delagrave 1976. p : 264.
[22] - Ibid . P : 265.
[23] André Pichot,La naissance de la science - 1.Mésopotamie,Egypte.Eds.Gallimard.1991. P :8
[24] ibid. P :251
[25].. Jack Goody. La raison graphique ..... P :141
[26]. Edmund Husserl, Recherches Logiques.Tome Premier – PUF 1959.P :10
[27].. Hegel , La raison dans l’histoire – introduction à la philosophie de l’histoire –Plon 1965P :25
[28] la raison graphique . op.cit. P :249
[29] Marguerite Rutten,la science des Chaldéens P.U.F.Paris 1960.P :35
[30] René Taton, La science antique et médiévale – des origines à 1450 – P.U.F. Paris 1957..P :77
[31] جان بوتيرو، بابل والكتاب لبمقدس محاورات مع الين مونساكريه.ترجمة روز مخلوف.دار كنعان.2005..ص 72
[32].ص 73 نفسه
[33] بناصر البعزاتي،بداية العلم التاريخية. ضمن: خصوبة المفاهيم في بناء المعرفة ـ دراسات ابستمولجية ـ دار الأمان مارس 2007 .ص35
بناصر البعزاتي، التواصل:المفاهيم والقنوات. ضمن خصوبة...... مرجع سابق. ص 147 [34]
[35] Marguerite Rutten,la science des chaldéens .P.U.F.Paris 1960.(que sais-je ?n :893). P : 13
[36] Alberto J.L. Carrillo Canàn , La éscritura y la éstructura de perception. http://serbal.pntic.mec.es/~cmunoz11/index.html
[37] نفسه .ص 148
[38] بداية العلم........مرجع سابق .ص 25
[39] نفسه .ص 25
[40] نفسه .ص30
[41] Walter f. Reinke, De la connaissance empirique aux commencements de la pensée scientifique. In : Histoire de L’Humanité.Volume II. Eds UNESCO2001.p :86
[42] جان بوتيرو بابل......مرجع سابق.ص158
[43] خصوبة المفاهيم..... مرجع سابق.ص 35
[44] Monica Rector , Des origines de l’écriture à l’invention de l’alphabet .IN : Histoire de l’humanité…….op.cit.P :185
[45] خصوبة..... مرجع سابق.ص30
[46] René Taton .op.cit..P :76
[47] Edmund Husserl,L’origine de la géométrie. traduction et introduction par Jacques Derrida.P.U.F.Paris.1974. P :176
[48] Jacques Derrida , ……………. Op.cit.PP : 46-47
[49] Jacques Derrida, L’origine…..op.cit.P :90
[50] Henri-jean Martin,...........................op.cit.P :95
[51] Jacques Derrida…………………..op.cit.P :84
[52]- Achille Weinberg. Op. Cit. P : 22
[53] - هذه الفكرة / الأطروحة نجدها كذلك وبشكل واضح عند ابن خلدون الذي يعرف الكتابة أولا بقوله: «رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس». ثم يقول بأنها ظاهرة حضارية «تابعة للعمران»: «ولهذا تجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرؤون. ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصرا وقراءته غير نافذة. ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارجة عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقا لاستحكام الصنعة فيها». [فصل في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية" ص: 331]. ويقول أيضا: «ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه وتداوله فترقت الإجادة فيه» [نفسه، ص 333].
[ابن خلدون، المقدمة، ج1، دار العودة، بيروت، 1988].
[54] - في ارتباط مع ما قاله إبن خلدون، وفي سياق الفضاء الإسلامي – العربي دائما، يقول المفكر محمد أركون الذي يستلهم جاك غودي نفسه: «ونظرا للحاجيات الإدارية والإيديولوجية للدولة العباسية فقد تم المرور أو الانتقال من حالة (أو وضع) العقل الخاص بالتراث الشفهي (أي نمط محدد من أنماط تشكل العقول وتمفصلها) إلى ما يدعى اليوم بالعقل الكتابي (La raison graphique). إن هذا المرور يعبر عن تعديل أو تغيير عميق في تشكيلة المجتمعات التقليدية وفي موازين القوى الموجودة بين الفئات الاجتماعية المختلفة ولعبة هذه الموازين وعلاقتها بانبثاق طبقة من المثقفين (أي رجال الدين في ذلك الوقت) من جهة، وانبثاق البورجوازية التجارية من جهة أخرى » [محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح مركز الإنماء القومي، المركز الثقافي العربي، ط3 ، 1998] ص ص : 85-86.
[55] - كلارس هيرنشميث، الكتابة بين عالم مرئي وعالم غير مرئي بإيران وإسرائيل واليونان.
ترجمة: حميد جسوس، عز الدين الخطابي [قيد الطبع].
[56] Robert Escarpit, L’écrit et la communication.P.U.F.5 ed.1993 (que sais-je ? ).p :13
[57] ibidem
[58]. Henri-Jean Martin, op. Cit. P : 26
[59] - جان بوطيرو، مرجع سابق
[60] Histoire et pouvoirs de l’écrit ……op.cit P :29
[61] - جان بوطيرو ، مرجع سابق
[62] - La logique de l’écriture. Op. cit. P : 109
[63] Walter f. Reinke……op.cit .P :86
[64] ibidem
[65] ibid.P : 87
[66] André Gribinski, Les hommes , de l’origine à l’écriture – petite histoire des hommes jusqu'à l’aube de l’histoire - .L’Harmattan . France/Canada.2000.P : 189
[67] - Ibid. P : 107
[68] - والترج. أونج، مرجع سابق، ص: 169
[69] - جان بوطيرون. مرجع سابق
[70] - كلارس هيرنشميث، مرجع سابق
[71] - يمكن أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، موقف Christian Duverger. فهو يذهب إلى أن ربط ميلاد الكتابة بميلاد الدولة ربط ينتج عنه الإقرار بدونية مجتمعات اللاكتابة، لأنه «إذا كانت الكتابة تتطلب درجة من التطور الثقافي، فهذا معناه أن غيابها يدل على حالة دولة متخلفة». إن هذا الإقرار، يرى دوفرجي، ترجمة لما يسميه ب «النزعة المانوية الغربية» ("manichéisme occidental").
ويعطي كمثال على بطلان هذا الربط أمريكا ما قبل كولومبية، وبالضبط مثال حضارة الأنكا بالبيرو، حيث إستاطعت قبيلة أن تتطور إلى شكل متقدم من التسيير الإداري، وكأننا أما دولة على درجة عليا من التطور، تراتبية ومركبة، وبها علماء وفلكيون وجراحون وصناع وفنانون ... وموظفون.
وبحسب «معايير التاريخ الغربي»، يقول دوفرجي – فإن «كل الشروط السوسيو- إقتصادية كانت مجتمعة لكي تظهر الكتابة. والحال أن "الأنكا" لم تعرف ذلك"، وذلك لم يمنع الأنكيون ( نسبة إلى الأنكا) أن يطوروا نظاما أصيلا للمحاسبة. وبناء عليه – سيستنتج دو فرجي أن الكتابة لا تشكل شرطا ضروريا لظهور الدولة – المدينة. كما أنها لا تتطلب بالضرورة درجة من التطور، ومن ثمة لا يمكن أن تعتبر كمعيار مطلق للتفوق الثقافي».
[Christian Duverger, le seuil de l’écriture. in : L’univers philosophique. P.U.F. 1991- PP : 1450-1451].
[72] - جون بوطيرو. مرجع سابق.
[73] - Logique de l’écriture, op. cit. P : 70
[74] - Ibid. P : 90.
[75] - Ibid. P : 28.
[76] - Jean Bazin et Alban Bensa. Avant-propos de : “la raison graphique. Op. cit. P : 26
[77] - Ibid. P : 27.
[78] - La raison graphique. Op. cit. P : 56
[79]- Ibidem.
[80] - ج. بوطيرو. مرجع سابق
[81] - الشفاهية والكتابية، تأليف والتر. ج. أونج. ترجمة... حسن البنا عز الدين بشاط 1994. سلسلة "عالم المعرفة" المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكوين. ص: 164.
[82] - نفسه. ص: 168.
[83] - ج. بوطيرو. مرجع سابق.
[84] - نفسه.
[85] - نفسه.
[86] - نفسه.
[87] - يعتبر ج. بوطيرو أهم المدافعين عن هذا السيناريو. لكن هناك من المختصين الآخرين من يعترض علمه. ويذهب عكس ذلك إلى "الكتابة كانت في بداياتها وأصلها لوغو غرافية تمثل الكلمات لا الأشياء" وهذا موقف Ignage J. Gelb أحد أكبر المختصين في الموضوع [Achille Weinberg, P: 22]
[88] - الشفاهية والكتابية، مرجع مذكور. ص : 173.
[89] - نفسه.
[90] - Henri – Jean Martin. Op. cit. P : 48.
[91] - الشفاهية والكتابية، ص 175.
[92] Morice Rector, Des origines de l’ecruture a l’invention de l’alphabet.in :Histoire de l’humanité.……op.cit. P : 183
[93] Andre Gribenski ,……. op.cit. P : 191
[94] - Achill Weinberg. Op. Cit. Pp: 23-24
[95] - La logique de l’écriture. Op. cit. P : 171
[96] - Ibidem
[97] - Ibid. P : 182
[98] - Ibidem
[99] - La raison graphique. Op. cit. P : 35
[100] - Ibidem
[101] - La logique de l’écriture, op. cit. P : 184
في "معجم الاقتصاد والعلوم الاجتماعية – مادة: الثقافة، نقرأ التعريف التالي للأنتروبولوجيا: «إنها العلم الذي يدرس تنوع المجتمعات الإنسانية واختلافها في الزمان والمكان».
[Dictionnaire d’économie et de sciences sociales – Jean – Yves, olivier Garnier, Hatier – Paris – 1993]
[102] - La raison graphique, op. cit. P : 49
[103] - La logique de l’écriture. Op. cit. P : 8
[104] - La raison graphique. Op. cit. P : 38
[105] - Ibid. P : 39
[106] - Ibidem
[107] - Ibidem
[108] - La raison graphique. Op. cit. P : 40
[109]- في مقاله «درس في الكتابة» المنشور ضمن كتاب «مدارات حزينة» يذهب ليفي ستراوس إلى أن الإنسانية قد عرفت أشكالا من التطور الحضاري قبل ظهور الكتابة «فإذا كانت الكتابة قد ظهرت بين الألفية الرابعة أو الثالثة قبل الميلاد، فإننا يجب أن ننظر إليها كنتيجة ... للثورة النيوليتيكية néolithique وليس سببها». بل إنه يعتبر «أنه منذ اختراع الكتابة إلى ميلاد العلم الحديث، فإن العالم الغربي قد عاش خمسة آلاف سنة عرفت فيها معارفه الاضمحلال أكثر من الرقي والنمو». وفي العصر النيوليتكي، حققت الإنسانية خطوات عملاقة دون اللجوء إلى الكتابة، ومن جهة أخرى، فقد لعبت الكتابة دور استغلال الإنسان واستعباده.
[Claude Lévi-strauss, leçon d’écriture in : Tristes topique … PP : 352-355]
وفي كتابه "الغراماتولوجيا" ينتقد جاك دريدا موقف ليفي ستراوس معتبرا إياه "نزعة صوتية "phonologisme" وكل "نزعة صوتية" تؤدي إلى استبعاد الكتابة والحط من قيمتها" لصالح «إيديولوجيا كلاسيكية تنظر إلى الكتابة كقدر حزين يهدد البراءة الطبيعية ووضع حد للعصر الذهبي حيث كان الكلام حاضرا وممتلئا».
[Jacques Derrida, L’écriture, mal politique et mal linguistique in De la grammatologie. Ed. Minuit. Paris 1967. P : 239.]
[110] - La logique de l’écriture. Op. cit. P : 8
[111] - La raison graphique. Op. Cit. P : 46
[112] - Ibidem
[113] - Ibid. P : 48
[114] - Ibid. P : 49
[115] - Ibidem
[116] - Ibidem
[117] - Ibidem
[118] - Ibidem
[119] - Ibidem
[120] - Jean Bazin et Alban Bensa. Op. cit. P : 24
[121]- La raison graphique. Op. Cit. P : 267
[122] - Ibid. P : 264
[123] - Ibid. P : 252
[124] - Ibid. P : 246
[125] - Ibidem
[126] - Ibid. P : 92
[127] - Ibid. P : 93
[128] - La logique de l’écriture. Op. Cit. P : 8
[129] - Ibid. P : 9
[130] - Achille wemberg. Op. Cit. P : 24
[131] - La raison graphique. Op. cit. P : 31
[132] dictionnaire d’économie et de sciences sociales .Op.cit.P :186
[133] Max weber,économie et societé.T 1.Paris.Plon 1971.P :225
( cité par jack goody. In : la raison graphique.P :56)
[134] La raison graphique….,op.cit.P :56
[135] ibid.P.55
[136] Logique de l’écriture…..op.cit.P P :113/114
[137] ibedem
[138] ibid.P :114
[139] ibidem
[140] La raison graphique…. Op.cit.P :255
[141] ibid.P :86
[142] ibid.P :142
[143] ibid P : 60
[144] ibid P : 182
[145] ibid.P :86
[146] Ecriture et societé,Entretien avec jack goody .collectif.eds.seuil.Paris.P :165
[147] La raison graphique……..op.cit.P :50
[148] ibidem
[149] La raison.op.cit.P P:50/51
بخصوص العلاقة بين الكتابة والمنطق،ينتقد ج.غودي ليفي برول بخصوص تمييزه بين العقليات المنطقية والعقليات الم-قبل منطقية،مفسرا ذلك بطريقة متهافة في نظر غودي خاصة وانه لا يأخذ بعين الاعتبار الأدوات المادية للتواصل، الشيء الذي أدى به إلى استنتاج مغلوط.وفي مقابل ذلك يذهب ج.غودي إلى أن مصدر الاختلاف ليس إلا تقنيا له علاقة بالوسائل التقنية للتواصل،ويعني بذلك الكتابة.
[150] ـJack Goody,entretien….op.cit.P ;167
[151] Andre Pichot ............op.cit. P:190
[152] ibid P : 191
[153] Rene taton ……op.cit.P : 86
[154] André Pichot…..op.cit.P : 263
[155] ibid.P : 258
[156] ibid.P :191
[157] ibid.P :179
[158] ibid.P :121
[159] ibid.P :200
[160] ibid.P :139
[161] ibid.P :251
[162] ibidem
[163] بوتيرو.....بابل....ص ص 158/159
[164] Walter F.Reinke……P :84
[165] ibid P :85
[166] ibid P : 88
[167] بابل والكتاب المقدس. مرجع سابق. ص 159
[168] Jack goody, la raison….P :102
[169] Jean-francois Dortier, Y a-t-ik eu un miracle grec ?.in :Sciences humaines.hors-serie n 31.decembre2000/janvier-fevrier2001.P :6
[170] La raison graphique.op.cit. .P : 103
[171] بابل والكتاب.....مرجع سابق.ص 160
[172] نفسه
[173] Henri-jean Martin…..op.cit. P :96
[174] ibid….p :97
[175] بابل والكتاب.....مرجع سابق.ص 159
[176] خصوبة المفاهيم. مرجع سابق. ص 36
[177] Marguerite Rutten,la science …..op.cit. P :6
[178] ibid.PP :40/42
[179] Henri-Jean Martin….op.cit.P :97